الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
التَّشْبِيهُ نَوْعٌ مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَعْلَاهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِل: لَوْ قَالَ قَائِلٌ هُوَ أَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَدْ أَفْرَدَ تَشْبِيهَاتِ الْقُرْآنِ بِالتَّصْنِيفِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبُنْدَارِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْجُمَانَ وَعَرَّفَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ السَّكَّاكِيُّ بِأَنَّهُ الدَّلَالَةُ عَلَى مُشَارَكَةِ أَوَامِرَ لِأَمْرٍ فِي مَعْنًى. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: هُوَ إِخْرَاجُ الْأَغْمَضِ إِلَى الْأَظْهَرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِذِي وَصْفٍ فِي وَصْفِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ تُثْبِتَ لِلْمُشَبَّهِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْنِيسُ النَّفْسِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ وَإِدْنَائِهِ الْبَعِيدَ مِنَ الْقَرِيبِ لِيُفِيدَ بَيَانًا. وَقِيلَ: الْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ. وَأَدَوَاتُهُ حُرُوفٌ وَأَسْمَاءُ وَأَفْعَالٌ فَالْحُرُوفُ: الْكَافُ، نَحْو: {كَرَمَادٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 18]، وَكَأَنَّ، نَحْو: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصَّافَّات: 65]. وَالْأَسْمَاءُ مِثْلٌ وَشِبْهٌ وَنَحْوُهُمَا مِمَّا يُشْتَقُّ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَا تُسْتَعْمَلُ مَثَلُ إِلَّا فِي حَالٍ أَوْ صِفَةٍ لَهَا شَأْنٌ وَفِيهَا غَرَابَةٌ، نَحْو: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آلِ عِمْرَانَ: 177]. وَالْأَفْعَالُ، نَحْو: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النُّور: 39]، {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طَه: 66]. قَالَ فِي التَّلْخِيصِ اتِّبَاعًا لِلسَّكَاكِيّ: وَرُبَّمَا يُذْكَرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنِ التَّشْبِيهِ، فَيُؤْتَى فِي التَّشْبِيهِ الْقَرِيبِ بِنَحْو: (عَلِمْتُ زَيْدًا أَسَدًا) الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَفِي الْبَعِيدِ بِنَحْو: (حَسِبْتُ زَيْدًا أَسَدًا) الدَّالِّ عَلَى الظَّنِّ وَعَدَمِ التَّحْقِيقِ. وَخَالَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطِّيبِيُّ فَقَالُوا: فِي كَوْنِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنْبِئُ عَنِ التَّشْبِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفِعْلَ يُنْبِئُ عَنْ حَالِ التَّشْبِيهِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَأَنَّ الْأَدَاةَ مَحْذُوفَةٌ مُقَدَّرَةٌ لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى بِدُونِهِ.
ذِكْرُ أَقْسَامِه: يَنْقَسِمُ التَّشْبِيهُ بِاعْتِبَارَاتٍ: الْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُمَا إِمَّا حِسِّيَّانِ أَوْ عَقْلِيَّانِ، أَوِ الْمُشَبَّهُ بِهِ حِسِّيٌّ وَالْمُشَبَّهُ عَقْلِيٌّ، أَوْ عَكْسُهُ. مِثَالُ الْأَوَّل: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يَس: 39]، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [الْقَمَر: 20] وَمِثَالُ الثَّانِي: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [الْبَقَرَة: 74]. كَذَا مَثَّلَ بِهِ فِي الْبُرْهَانِ، وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَاقِعٌ فِي الْقَسْوَةِ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْقُلُوبِ وَالْحِجَارَةِ، فَهُوَ مِنَ الْأَوَّلِ. وَمِثَالُ الثَّالِث: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إِبْرَاهِيمَ: 18]. وَمِثَالُ الرَّابِعُ: لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ مَنَعَهُ الْإِمَامُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحِسِّ، فَالْمَحْسُوسُ أَصْلٌ لِلْمَعْقُولِ، وَتَشْبِيهُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعَ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 187]. الثَّانِي: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ وَجْهِهِ إِلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ، وَالْمُرَكَّبُ أَنْ يُنْتَزَعَ وَجْهُ الشَّبَهِ مِنْ أُمُورٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ كَقَوْلِه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الْجُمُعَة: 5]، فَالتَّشْبِيهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَحْوَالِ الْحِمَارِ وَهُوَ حِرْمَانُ الِانْتِفَاعِ بِأَبْلَغِ نَافِعٍ مَعَ تَحَمُّلِ التَّعَبِ فِي اسْتِصْحَابِهِ. وَقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} إِلَى قَوْلِه: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يُونُسَ: 24]، فَإِنَّ فِيهِ عَشْرَ جُمَلٍ وَقْعَ التَّرْكِيبُ مِنْ مَجْمُوعِهَا بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ مِنْهَا شَيْءٌ اخْتَلَّ التَّشْبِيهُ إِذِ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ حَالِ الدُّنْيَا- فِي سُرْعَةِ تَقَضِّيهَا وَانْقِرَاضِ نَعِيمِهَا وَاغْتِرَارِ النَّاسِ بِهَا- بِحَالِ مَاءٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَأَنْبَتَ أَنْوَاعَ الْعُشْبِ وَزَيَّنَ بِزُخْرُفِهَا وَجْهَ الْأَرْضِ كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتِ الثِّيَابَ الْفَاخِرَةَ حَتَّى إِذَا طَمِعَ أَهْلُهَا فِيهَا وَظَنُّوا أَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْجَوَائِحِ أَتَاهَا بِأْسُ اللَّهِ فَجْأَةً فَكَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَجْهُ تَشْبِيهِ الدُّنْيَا بِالْمَاءِ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكَ تَضَرَّرْتَ، وَإِنْ أَخَذْتَ قَدَرَ الْحَاجَةِ انْتَفَعْتَ بِهِ، فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا طَبَّقْتَ عَلَيْهِ كَفَّكَ لِتَحْفَظَهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَقوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ [النُّور: 35]، فَشَبَّهَ نُورَهُ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِمِصْبَاحٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْإِضَاءَةِ؛ إِمَّا بِوَضْعِهِ فِي مِشْكَاةٍ وَهِيَ الطَّاقَةُ الَّتِي لَا تَنْفُذُ، وَكَوْنُهَا لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلْبَصَرِ. وَقَدْ جُعِلَ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي دَاخِلِ زُجَاجَةٍ تُشْبِهُ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي صَفَائِهَا، وَدُهْنُ الْمِصْبَاحِ مِنْ أَصْفَى الْأَدْهَانِ وَأَقْوَاهَا وَقُودًا؛ لِأَنَّهُ مَنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ فِي أَوْسَطَ الزُّجَاجِ، (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، بَلْ تُصِيبُهَا الشَّمْسُ أَعْدَلَ إِصَابَةٍ. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِلْمُؤْمِنِ. ثُمَّ ضَرَبَ لِلْكَافِرِ مَثَلَيْن: أَحَدُهُمَا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وَالْآخَرُ {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا تَشْبِيهُ تَرْكِيبٍ. الثَّالِثُ: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: تَشْبِيهُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا لَا تَقَعُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ، فَإِنَّ إِدْرَاكَهُمَا أَبْلَغُ مِنْ إِدْرَاكِ الْحَاسَّةِ كَقَوْلِه: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصَّافَّات: 65]، شَبَّهَ بِمَا لَا يُشَكُّ أَنَّهُ مُنْكَرٌ قَبِيحٌ لِمَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ بَشَاعَةِ صُورَةِ الشَّيَاطِينِ، وَإِنْ لَمْ تَرَهَا عَيَانًا. الثَّانِي: عَكْسُهُ، وَهُوَ تَشْبِيهُ مَا لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا تَقَعُ عَلَيْهِ كَقَوْلِه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النُّور: 39]، أَخْرَجَ مَا لَا يُحَسُّ وَهُوَ الْإِيمَانُ إِلَى مَا يُحَسُّ وَهُوَ السَّرَابُ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بُطْلَانُ التَّوَهُّمِ مَعَ شَدَّةِ الْحَاجَةِ وَعِظَمِ الْفَاقَةِ. الثَّالِثُ: إِخْرَاجُ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ إِلَى مَا جَرَتْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الْأَعْرَاف: 171]، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِارْتِفَاعُ فِي الصُّورَةِ. الرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بِهَا كَقَوْلِه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الْحَدِيد: 21]، وَالْجَامِعُ الْعِظَمُ، وَفَائِدَتُهُ التَّشْوِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُسْنِ الصِّفَةِ وَإِفْرَاطِ السَّعَةِ. الْخَامِسُ: إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرَّحْمَن: 24]، وَالْجَامِعُ فِيهِمَا الْعِظَمُ، وَالْفَائِدَةُ إِبَانَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِيرِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ فِي أَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَاءِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ انْتِفَاعِ الْخَلْقِ بِحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَقَطْعِهَا الْأَقْطَارَ الْبَعِيدَةَ فِي الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ، وَمَا يُلَازِمُ ذَلِكَ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيَاحِ لِلْإِنْسَانِ، فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ بِنَاءً عَظِيمًا مِنَ الْفَخْرِ وَتَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الْخَمْسَةِ تَجْرِي تَشْبِيهَاتُ الْقُرْآنِ. السَّادِسُ: يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى: مُؤَكَّدٍ: وَهُوَ مَا حُذِفَتْ فِيهِ الْأَدَاةُ، نَحْو: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْل: 88]؛ أَيْ: مِثْلَ مَرِّ السَّحَابِ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الْأَحْزَاب: 6]، {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]، وَمُرْسَلٍ: وَهُوَ مَا لَمْ تُحْذَفْ كَالْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَالْمَحْذُوفَةُ الْأَدَاةِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ الثَّانِي مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا.
قَاعِدَةٌ: الْأَصْلُ دُخُولُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُشَبَّهِ، إِمَّا لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَتَقْلِبُ التَّشْبِيهَ وَتَجْعَلُ الْمُشَبَّهَ هُوَ الْأَصْلَ، نَحْو: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 275]، كَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرِّبَا لَا فِي الْبَيْعِ، فَعَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلُوا الرِّبَا أَصْلًا مُلْحَقًا بِهِ الْبَيْعُ فِي الْجَوَازِ وَأَنَّهُ الْخَلِيقُ بِالْحَلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النَّحْل: 17]، فَإِنَّ الظَّاهِرَ الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ سَمَّوْهَا آلِهَةً، تَشْبِيهًا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَجَعَلُوا غَيْرَ الْخَالِقِ مِثْلَ الْخَالِقِ، فَخُولِفَ فِي خِطَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي عِبَادَتِهِمْ، وَغَلَوْا حَتَّى صَارَتْ عِنْدَهُمْ أَصْلًا فِي الْعِبَادَةِ، فَجَاءَ الرَّدُّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ. وَإِمَّا لِوُضُوحِ الْحَالِ، نَحْو: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آلِ عِمْرَانَ: 36]، فَإِنَّ الْأَصْلَ وَلَيْسَ الْأُنْثَى كَالذَّكَرِ؛ وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبْتُ كَالْأُنْثَى الَّتِي وُهِبْتُ. وَقِيلَ: لِمُرَاعَاةِ الْفَوَاصِلِ لِأَنَّ قَبْلَهُ {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آلِ عِمْرَانَ: 36]. وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِمَا اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ، نَحْو: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} الْآيَةَ [الصَّفّ: 14]، الْمُرَادُ: (كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ خَالِصِينَ فِي الِانْقِيَادِ كَشَأْنِ مُخَاطِبِي عِيسَى إِذْ قَالُوا..)
قَاعِدَةٌ: الْقَاعِدَةُ فِي الْمَدْحِ تَشْبِيهُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَفِي الذَّمِّ تَشْبِيهُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى؛ لِأَنَّ الذَّمَّ مَقَامُ الْأَدْنَى، وَالْأَعْلَى طَارِئٌ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ فِي الْمَدْح: الْحَصَى كَالْيَاقُوتِ، وَفِي الذَّمّ: يَاقُوتٌ كَالزُّجَاجِ. وَكَذَا فِي السَّلْبِ، وَمِنْهُ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الْأَحْزَاب: 32]؛ أَيْ: فِي النُّزُولِ لَا فِي الْعُلُوِّ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]؛ أَيْ: فِي سُوءِ الْحَالِ؛ أَيْ: لَا نَجْعَلُهُمْ كَذَلِكَ. نَعَمْ، أُورِدَ عَلَى ذَلِكَ {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النُّور: 35]، فَإِنَّهُ شَبَّهَ فِيهِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، لَا فِي مَقَامِ السَّلْبِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِلتَّقْرِيبِ إِلَى أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ؛ إِذْ لَا أَعْلَى مِنْ نُورِهِ فَيُشَبَّهُ بِهِ. فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ تَشْبِيهُ شَيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ تَشْبِيهُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ.
زُوِّجَ الْمَجَازُ بِالتَّشْبِيهِ، فَتَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الِاسْتِعَارَةُ، فَهِيَ مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ الْمُشَابَهَةُ. أَوْ يُقَالُ فِي تَعْرِيفِهَا: اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا شُبِّهَ بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَجَازٌ لُغَوِيٌّ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ لَا لِلْمُشَبَّهِ، وَلَا الْأَعَمِّ مِنْهُمَا، فَأَسَدٌ فِي قَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَسَدًا يَرْمِي، مَوْضُوعٌ لِلسَّبُعِ لَا لِلشُّجَاعِ، وَلَا لِمَعْنًى أَعَمَّ مِنْهُمَا، كَالْحَيَوَانِ الْجَرِيءِ مَثَلًا لِيَكُونَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ الْحَيَوَانِ عَلَيْهِمَا. وَقِيلَ: مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا فِي أَمْرٍ عَقْلِيٍّ لَا لُغَوِيٍّ لِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى الْمُشَبَّهِ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ دُخُولِهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ نَقْلِ الِاسْمِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ نَقْلُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ اسْتِعَارَةً؛ لِأَنَّهُ لَا بَلَاغَةَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَقْلِيًّا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَقِيقَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تُسْتَعَارَ الْكَلِمَةُ مِنْ شَيْءٍ مَعْرُوفٍ بِهَا إِلَى شَيْءٍ لَمْ يُعْرَفْ بِهَا، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ إِظْهَارُ الْخَفِيِّ وَإِيضَاحُ الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ بِجَلِيٍّ، أَوْ حُصُولُ الْمُبَالَغَةِ أَوِ الْمَجْمُوعِ. مِثَالُ إِظْهَارِ الْخَفِيّ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزُّخْرُف: 4]، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: وَأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ، فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْأُمِّ لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ تَنْشَأُ مِنَ الْأُمِّ كَإِنْشَاءِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَمْثِيلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ حَتَّى يَصِيرَ مَرْئِيًّا، فَيَنْتَقِلُ السَّامِعُ مِنْ حَدِّ السَّمَاعِ إِلَى حَدِّ الْعَيَانِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْبَيِانِ. وَمِثَالُ إِيضَاحِ مَا لَيْسَ بِجَلِيٍّ لِيَصِيرَ جَلِيًّا {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاء: 24]، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالذُّلِّ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً فَاسْتُعِيرَ لِلذُّلِّ أَوَّلًا (جَانِبٌ) ثُمَّ لِلْجَانِبِ جَنَاحٌ، وَتَقْدِيرُ الِاسْتِعَارَةِ الْقَرِيبَة: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ) أَي: اخِفِضْ جَانِبَكَ ذُلًّا. وَحِكْمَةُ الِاسْتِعَارَةِ فِي هَذَا جَعْلُ مَا لَيْسَ بِمَرْئِيٍّ مَرْئِيًّا لِأَجْلِ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ خَفْضَ جَانِبِ الْوَلَدِ لِلْوَالِدَيْنِ بِحَيْثُ لَا يُبْقِي الْوَلَدُ مِنَ الذُّلِّ لَهُمَا وَالِاسْتِكَانَةِ مُمْكِنًا احْتِيجَ فِي الِاسْتِعَارَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى فَاسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَحْصُلُ مِنْ خَفْضِ الْجَانِبِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَمِيلُ جَانِبُهُ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ أَدْنَى مَيْلٍ، صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَفَضَ جَانِبَهُ، وَالْمُرَادُ خَفْضٌ يُلْصِقُ الْجَانِبَ بِالْأَرْضِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلَّا بِذِكْرِ الْجَنَاحِ كَالطَّائِرِ. وَمِثَالُ الْمُبَالَغَةِ {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [الْقَمَر: 12]، وَحَقِيقَتُهُ: (وَفَجَّرْنَا عُيُونَ الْأَرْضِ)، وَلَوْ عَبَّرَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا فِي الْأَوَّلِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا صَارَتْ عُيُونًا.
أَرْكَانُ الِاسْتِعَارَةِ ثَلَاثَةٌ فِي الْقُرْآن: مُسْتَعَارٌ، وَهُوَ لَفْظُ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَمُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَعْنَى لَفْظِ الْمُشَبَّهِ. وَمُسْتَعَارٌ لَهُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ.
وَأَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ: فَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ مَحْسُوسٍ، نَحْو: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَمَ: 4]، فَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ هُوَ النَّارُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الشَّيْبُ، وَالْوَجْهُ هُوَ الِانْبِسَاطُ وَمُشَابَهَةُ ضَوْءِ النَّارِ لِبَيَاضِ الشَّيْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قِيلَ: اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ. لِإِفَادَةِ عُمُومِ الشَّيْبِ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ. وَمِثْلُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الْكَهْف: 99]، أَصْلُ الْمَوْجِ حَرَكَةُ الْمَاءِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي حَرَكَتِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَالْجَامِعُ سُرْعَةُ الِاضْطِرَابِ وَتَتَابُعُهُ فِي الْكَثْرَةِ. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التَّكْوِير: 18]، اسْتُعِيرَ خُرُوجُ النَّفَسِ شَيْئًا فَشَيْئًا لِخُرُوجِ النُّورِ مِنَ الْمَشْرِقِ عِنْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ قَلِيلًا قَلِيلًا، بِجَامِعِ التَّتَابُعِ عَلَى طَرِيقِ التَّدْرِيجِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَحْسُوسٌ. الثَّانِي: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ لِمَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَهِيَ أَلْطَفُ مِنَ الْأُولَى، نَحْو: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: 37]، فَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّلْخُ الَّذِي هُوَ كَشْطُ الْجِلْدِ عَنِ الشَّاةِ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَشْفُ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ وَهُمَا حِسِّيَّانِ، وَالْجَامِعُ مَا يُعْقَلُ مِنْ تَرَتُّبِ أَمْرٍ عَلَى آخَرَ وَحُصُولِهِ عَقِبَ حُصُولِهِ، كَتَرَتُّبِ ظُهُورِ اللَّحْمِ عَلَى الْكَشْطِ وَظُهُورِ الظُّلْمَةِ عَلَى كَشْفِ الضَّوْءِ عَنْ مَكَانِ اللَّيْلِ، وَالتَّرَتُّبُ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ. وَمِثْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} [يُونُسَ: 24]، أَصْلُ الْحَصِيدِ النَّبَاتُ، وَالْجَامِعُ الْهَلَاكُ، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ. الثَّالِثُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَعْقُولٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَهِيَ أَلْطَفُ الِاسْتِعَارَاتِ، نَحْو: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]، الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ الرُّقَادُ؛ أَي: النَّوْمُ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْمَوْتُ، وَالْجَامِعُ عَدَمُ ظُهُورِ الْفِعْلِ، وَالْكُلُّ عَقْلِيٌّ. وَمِثْلُهُ {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الْأَعْرَاف: 154]، الْمُسْتَعَارُ السُّكُوتُ وَالْمُسْتَعَارُ مِنْهُ السَّاكِتُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ الْغَضَبُ. الرَّابِعُ: اسْتِعَارَةُ مَحْسُوسٍ بِوَجْهٍ عَقْلِيٍّ أَيْضًا، نَحْو: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [الْبَقَرَة: 214]، اسْتُعِيرَ الْمَسُّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِمُقَاسَاةِ الشَّدَّةِ وَالْجَامِعُ اللُّحُوقُ وَهُمَا عَقْلِيَّانِ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الْأَنْبِيَاء: 18]، فَالْقَذْفُ وَالدَّمْغُ مُسْتَعَارَانِ وَهُمَا مَحْسُوسَانِ وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ مُسْتَعَارٌ لَهُمَا وَهُمَا مَعْقُولَانِ {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 112]، اسْتُعِيرَ الْحَبَلُ الْمَحْسُوسُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ مَعْقُولٌ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94]، اسْتُعِيرَ الصَّدْعُ وَهُوَ كَسْرُ الزُّجَاجَةِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ لِلتَّبْلِيغِ وَهُوَ مَعْقُولٌ وَالْجَامِعُ التَّأْثِيرُ وَهُوَ أَبْلَغُ مَنْ بَلَغَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَّدْعِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّبْلِيغِ، فَقَدْ لَا يُؤَثِّرُ التَّبْلِيغُ، وَالصَّدْعُ يُؤَثِّرُ جَزْمًا، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاء: 24]، قَالَ الرَّاغِبُ: لَمَّا كَانَ الذُّلُّ عَلَى ضَرْبَيْن: ضَرْبٌ يَضَعُ الْإِنْسَانَ، وَضَرْبٌ يَرْفَعُهُ، وَقُصِدَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مَا يَرْفَعُ، اسْتُعِيرَ لَفْظُ الْجَنَاحِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اسْتَعْمِلِ الذُّلَّ الَّذِي يَرْفَعُكَ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الْأَنْعَام: 68]، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 187]، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى} [التَّوْبَة: 109]، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الْأَعْرَاف: 45]، {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الْفُرْقَان: 23]، {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشُّعَرَاء: 225]، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الْإِسْرَاء: 29]، كُلُّهَا مِنَ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ. الْخَامِسُ: اسْتِعَارَةُ مَعْقُولٍ لِمَحْسُوسٍ وَالْجَامِعُ عَقْلِيٌّ أَيْضًا، نَحْو: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الْحَاقَّة: 11]، الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ، وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ حِسِّيٌّ، وَالْجَامِعُ الِاسْتِعْلَاءُ وَهُوَ عَقْلِيٌّ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الْمُلْك: 8]، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الْإِسْرَاء: 12]. وَتَنْقَسِمُ الِاسْتِعَارَةُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ إِلَى: أَصْلِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعَارُ فِيهَا اسْمُ جِنْسٍ كَآيَةِ {بِحَبْلِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 103]، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلَاق: 11]، {فِي كُلِّ وَادٍ} [الشُّعَرَاء: 225]. وَتَبَعِيَّةٍ: وَهِيَ مَا كَانَ اللَّفْظُ فِيهَا غَيْرُ اسْمِ جِنْسٍ كَالْفِعْلِ وَالْمُشْتَقَّاتِ كَسَائِرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَكَالْحُرُوفِ، نَحْو: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [الْقَصَص: 8]، شَبَّهَ تَرَتُّبَ الْعَدَاوَةِ وَالْحُزْنِ عَلَى الِالْتِقَاطِ بِتَرَتُّبِ غَلَبَةِ الْغَائِيَّةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ فِي الْمُشَبَّهِ اللَّامُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ. وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى مُرَشَّحَةٍ وَمُجَرَّدَةٍ وَمُطْلَقَةٍ. فَالْأُولَى وَهِيَ أَبْلَغُهَا: أَنْ تَقْتَرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ مِنْهُ، نَحْو: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [الْبَقَرَة: 16]، اسْتُعِيرَ الِاشْتِرَاءُ لِلِاسْتِبْدَالِ وَالِاخْتِبَارِ ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُهُ مِنَ الرِّبْحِ وَالتِّجَارَةِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تُقْرَنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ، نَحْو: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النَّحْل: 112]، اسْتُعِيرَ اللِّبَاسُ لِلْجُوعِ ثُمَّ قُرِنَ بِمَا يُلَائِمُ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مِنَ الْإِذَاقَةِ، وَلَوْ أَرَادَ التَّرْشِيحَ لَقَالَ: فَكَسَاهَا. لَكِنَّ التَّجْرِيدَ هُنَا أَبْلَغُ لِمَا فِي لَفْظِ الْإِذَاقَةِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَلَمِ بَاطِنًا. وَالثَّالِثَةُ: أَلَّا تُقْرَنَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى تَحْقِيقِيَّةٍ، وَتَخْيِيلِيَّةٍ، وَمَكْنِيَّةٍ، وَتَصْرِيحِيَّةٍ. فَالْأُولَى: مَا تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا حِسًّا، نَحْو: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الْآيَةَ، أَوْ عَقْلًا، نَحْو: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النِّسَاء: 174]؛ أَيْ: بَيَانًا وَاضِحًا وَحُجَّةً لَامِعَةً {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [فَاتِحَةِ الْكِتَاب: 6]؛ أَي: الدِّينَ الْحَقَّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَتَحَقَّقُ عَقْلًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُضْمَرَ التَّشْبِيهُ فِي النَّفْسِ فَلَا يُصَرَّحُ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهِ سِوَى الْمُشَبَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ الْمُضْمِرِ فِي النَّفْسِ بِأَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشَبَّهِ أَمْرٌ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ التَّشْبِيهُ الْمُضْمَرُ اسْتِعَارَةً بِالْكِنَايَةِ وَمَكْنِيًّا عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، بَلْ دَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ خَوَاصِّهِ. وَيُقَابِلُهُ التَّصْرِيحِيَّةُ وَيُسَمَّى إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُخْتَصِّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ اسْتِعَارَةً تَخْيِيلِيَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُعِيرَ لِلْمُشَبَّهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُخْتَصُّ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَبِهِ يَكُونُ كَمَالُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَقِوَامُهُ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ لِتَخَيُّلِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الْبَقَرَة: 27]، شَبَّهَ الْمِيثَاقَ بِالْحَبْلِ وَأَضْمَرَ فِي النَّفْسِ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ التَّشْبِيهِ سِوَى الْعَهْدِ الْمُشَبَّهِ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ النَّقْضِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ الْحَبْلُ، وَكَذَا {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مَرْيَمَ: 4]، طَوَى ذِكْرَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ النَّارُ وَدَلَّ عَلَيْهِ بِلَازِمِهِ وَهُوَ الِاشْتِعَالُ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} [النَّحْل: 112]، الْآيَةَ. شَبَّهَ مَا يُدْرَكُ مِنْ أَثَرِ الضَّرَرِ وَالْأَلَمِ بِمَا يُدْرَكُ مِنْ طَعْمِ الْمُرِّ، فَأَوْقَعَ عَلَيْهِ الْإِذَاقَةَ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الْبَقَرَة: 7]، شَبَّهَهَا فِي أَنْ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ بِالشَّيْءِ الْمَوْثُوقِ الْمَخْتُومِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الْخَتْمَ. {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الْكَهْف: 77]، شَبَّهَ مَيَلَانَهُ لِلسُّقُوطِ بِانْحِرَافِ الْحَيِّ فَأَثْبَتَ لَهُ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْعُقَلَاءِ. وَمِنَ التَّصْرِيحِيَّةِ آيَةُ: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [الْبَقَرَة: 214]، {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]. وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى: وِفَاقِيَّةٍ: بِأَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ مُمْكِنًا، نَحْو: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الْأَنْعَام: 122]؛ أَيْ: ضَالًّا فَهَدَيْنَاهُ. اسْتُعِيرَ الْإِحْيَاءُ مِنْ جَعْلِ الشَّيْءِ حَيًّا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُوصِّلُ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَالْإِحْيَاءُ وَالْهِدَايَةُ مِمَّا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ. وَعِنَادِيَّةٍ: وَهِيَ مَا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ، كَاسْتِعَارَةِ اسْمِ الْمَعْدُومِ لِلْمَوْجُودِ لِعَدَمِ نَفْعِهِ، وَاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فِي شَيْءٍ مُمْتَنِعٍ. وَمِنَ الْعِنَادِيَّة: التَّهَكُّمِيَّةُ وَالتَّمْلِيحِيَّةُ، وَهُمَا مَا اسْتُعْمِلَ فِي ضِدٍّ أَوْ نَقِيضٍ، نَحْو: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 21]؛ أَيْ: أَنْذِرْهُمْ، اسْتُعِيرَتِ الْبِشَارَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَسُرُّ لِلْإِنْذَارِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ بِإِدْخَالِ جِنْسِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، نَحْو: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هُودٍ: 87]، عَنَوُا الْغَوِيَّ السَّفِيهَ تَهَكُّمًا {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49]. وَتَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى: تَمْثِيلِيَّةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهَا مُنْتَزَعًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ، نَحْو: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آلِ عِمْرَانَ: 103]، شَبَّهَ اسْتِظْهَارَ الْعَبْدِ بِاللَّهِ وَوُثُوقَهُ بِحِمَايَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكَارِهِ، بِاسْتِمْسَاكِ الْوَاقِعِ فِي مَهْوَاةٍ بِحَبْلٍ وَثِيقٍ مُدَلًّى مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يَأْمَنُ انْقِطَاعَهُ.
تَنْبِيهٌ: قَدْ تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ بِلَفْظَيْنِ، نَحْو: {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الْإِنْسَان: 15، 16]، يَعْنِي تِلْكَ الْأَوَانِي لَيْسَتْ مِنَ الزُّجَاجِ وَلَا مِنَ الْفِضَّةِ، بَلْ فِي صَفَاءِ الْقَارُورَةِ وَبَيَاضِ الْفِضَّةِ. {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الْفَجْر: 13]، فَالصَّبُّ كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ، وَالسَّوْطُ عَنِ الْإِيلَامِ، فَالْمَعْنَى: عَذَّبَهُمْ عَذَابًا دَائِمًا مُؤْلِمًا. فَائِدَةٌ: أَنْكَرَ قَوْمٌ الِاسْتِعَارَةَ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمُ الْمَجَازَ، وَقَوْمٌ: إِطْلَاقَهَا فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا إِيهَامًا لِلْحَاجَةِ، وَلِأَنَّ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ إِذْنٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَعَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ. وَقَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: إِنْ أَطْلَقَ الْمُسْلِمُونَ الِاسْتِعَارَةَ فِيهِ أَطْلَقْنَاهَا، وَإِنِ امْتَنَعُوا امْتَنَعْنَا، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ (إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ) وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَقْلُ، ثُمَّ لَا نَصِفُهُ بِهِ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ. انْتَهَى. فَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ: تَقَدَّمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَشْرَفِهَا، وَاتَّفَقَ الْبُلَغَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا مَجَازٌ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْمَجَازُ أَبْلَغُ، فَإِذَا الِاسْتِعَارَةُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْفَصَاحَةِ، وَكَذَا الْكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَالِاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ الْكِنَايَةِ، كَمَا قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: إِنَّهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهَا كَالْجَامِعَةِ بَيْنَ كِنَايَةٍ وَاسْتِعَارَةٍ، وَلِأَنَّهَا مَجَازٌ قَطْعًا. وَفِي الْكِنَايَةِ خِلَافٌ. وَأَبْلَغُ أَنْوَاعِ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكَشَّافِ وَيَلِيهَا الْمَكْنِيَّةُ صَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَالتَّرْشِيحِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ الْمُجَرَّدَةِ وَالْمُطْلَقَةِ، وَالتَّخْيِيلِيَّةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّحْقِيقِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَبْلَغِيَّةِ إِفَادَةُ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَمَالِ التَّشْبِيهِ لَا زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
مِنَ الْمُهِمِّ تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ الْمَحْذُوفِ الْأَدَاةِ، نَحْوُ: زِيدٌ أَسَدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [الْبَقَرَة: 18]: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ يُسَمَّى مَا فِي الْآيَةِ اسْتِعَارَةً، قُلْتُ: نَخْتَلِفُ فِيهِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تَشْبِيهًا بَلِيغًا لَا اسْتِعَارَةً؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَإِنَّمَا تُطْلَقُ الِاسْتِعَارَةُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ لَهُ، لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحَوَى الْكَلَامِ. وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا. وَعَلَّلَهُ السَّكَّاكِيُّ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانُ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ، وَ(زَيْدٌ أَسَدٌ) لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، وَتَابَعَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ. قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: وَمَا قَالَاهُ مَمْنُوعٌ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ صَلَاحِيَةُ الْكَلَامِ لِصَرْفِهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ. قَالَ: بَلْ لَوْ عُكِسَ ذَلِكَ وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَتِهِ لَكَانَ أَقْرَبَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ مَجَازٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَرِينَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ امْتَنَعَ صَرْفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ وَصَرَفْنَاهُ إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَإِنَّمَا نَصْرِفُهُ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ بِقَرِينَةٍ: إِمَّا لَفْظِيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، نَحْوُ: زِيدٌ أَسَدٌ، فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ زَيْدٍ قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنْ إِرَادَةِ حَقِيقَتِهِ. قَالَ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ فِي، نَحْو: زِيدٌ أَسَدٌ قِسْمَان: تَارَةً يُقْصَدُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَتَكُونُ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ مُقَدَّرَةً. وَتَارَةً يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَارَةُ فَلَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً، وَيَكُونُ الْأَسَدُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَذَكَرَ زَيْدٌ: وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ حَقِيقَةً قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ إِلَى الِاسْتِعَارَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى حَذْفِ الْأَدَاةِ صِرْنَا إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ فَنَحْنُ بَيْنَ إِضْمَارٍ وَاسْتِعَارَةٍ، وَالِاسْتِعَارَةُ أَوْلَى فَيُصَارُ إِلَيْهَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا الْفَرْقِ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ فِي قَوَانِينِ الْبَلَاغَةِ. وَكَذَا قَالَ حَازِمٌ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا، وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ.
هُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَسَالِيبِ الْفَصَاحَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكِنَايَةَ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَعَرَّفَهَا أَهْلُ الْبَيَانِ بِأَنَّهَا لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ لَازِمُ مَعْنَاهُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْكُ التَّصْرِيحِ بِالشَّيْءِ إِلَى مَا يُسَاوِيهِ فِي اللُّزُومِ، فَيَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى الْمَلْزُومِ. وَأَنْكَرَ وُقُوعَهَا فِي الْقُرْآنِ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ. وَلِلْكِنَايَةِ أَسَالِيبُ فِي الْقُرْآنِ. أَحَدُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ، نَحْو: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الْأَعْرَاف: 189]، كِنَايَةٌ عَنْ آدَمَ. ثَانِيهَا: تَرْكُ اللَّفْظِ إِلَى مَا هُوَ أَجْمَلُ، نَحْو: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23]، فَكَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّصْرِيحِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ أَجْمَلُ مِنْهُ؛ لِهَذَا لَمْ تُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ امْرَأَةٌ بِاسْمِهَا إِلَّا مَرْيَمَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ مَرْيَمُ بِاسْمِهَا عَلَى خِلَافِ عَادَةِ الْفُصَحَاءِ لِنُكْتَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُلُوكَ وَالْأَشْرَافَ لَا يَذْكُرُونَ حَرَائِرَهُمْ فِي مَلَإٍ وَلَا يَبْتَذِلُونَ أَسْمَاءَهُنَّ، بَلْ يُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْفَرْشِ وَالْعِيَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا ذَكَرُوا الْإِمَاءَ لَمْ يُكَنُّوا عَنْهُنَّ وَلَمْ يَصُونُوا أَسْمَاءَهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ، فَلَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ مَا قَالُوا صَرَّحَ اللَّهُ بِاسْمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا تَأْكِيدًا لِلْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لَهَا، وَتَأْكِيدًا لِأَنَّ عِيسَى لَا أَبَ لَهُ وَإِلَّا لَنُسِبَ إِلَيْهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّصْرِيحُ مِمَّا يُسْتَقْبَحُ ذِكْرُهُ كَكِنَايَةِ اللَّهِ عَنِ الْجِمَاعِ بِالْمُلَامِسَةِ وَالْمُبَاشِرَةِ وَالْإِفْضَاءِ وَالرَّفَثِ وَالدُّخُولِ، وَالسِّرِّ فِي قَوْلِه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [الْبَقَرَة: 235]، وَالْغَشَيَانِ فِي قَوْلِه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الْأَعْرَاف: 189]، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُبَاشَرَةُ الْجِمَاعُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي. وَأَخْرَجَ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي مَا شَاءَ، وَإِنَّ الرَّفَثَ هُوَ الْجِمَاعُ، وَكَنَّى عَنْ طَلَبِهِ بِالْمُرَاوَدَةِ فِي قَوْلِه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يُوسُفَ: 23]، وَعَنْهُ: أَوْ عَنِ الْمُعَانَقَةِ بِاللِّبَاسِ فِي قَوْلِه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [الْبَقَرَة: 187]، وَبِالْحَرْثِ فِي قَوْلِه: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 223]. وَكَنَّى عَنِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهِ بِالْغَائِطِ فِي قَوْلِه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [الْمَائِدَة: 6]، وَأَصْلُهُ الْمَكَانُ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ. وَكَنَّى عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ وَابْنِهَا {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَة: 75]، وَكَنَّى عَنِ الْأَسْتَاهِ بِالْأَدْبَارِ فِي قَوْلِه: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 27]، أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: يَعْنِي أَسْتَاهَهُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُكَنِّي. وَأَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ التَّصْرِيحَ بِالْفَرْجِ فِي قَوْلِه: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التَّحْرِيم: 12]، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فَرْجُ الْقَمِيصِ، وَالتَّعْبِيرُ بِهِ أَلْطَفُ الْكِنَايَاتِ وَأَحْسَنُهَا؛ أَيْ: لَمْ يَعْلَقْ ثَوْبُهَا بِرِيبَةٍ فَهِيَ طَاهِرَةُ الثَّوْبِ، كَمَا يُقَالُ نَقِيُّ الثَّوْبِ وَعَفِيفُ الذَّيْلِ، كِنَايَةً عَنِ الْعِفَّةِ، وَمِنْهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [الْمُدَّثِّر: 4]، وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ نَفْخَ جِبْرِيلَ وَقْعَ فِي فَرْجِهَا، وَإِنَّمَا نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا. وَنَظِيرُهُ أَيْضًا: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الْمُمْتَحِنَة: 12]، قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كِنَايَةٍ، وَنَظِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَجَازِ الْمَجَازِ. رَابِعُهَا: قَصْدُ الْبَلَاغَةِ وَالْمُبَالَغَةِ، نَحْو: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزُّخْرُف: 18]، كَنَّى عَنِ النِّسَاءِ بِأَنَّهُنَّ يَنْشَأْنَ فِي التَّرَفُّهِ وَالتَّزَيُّنِ الشَّاغِلِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقِيقِ الْمَعَانِي، وَلَوْ أَتَى بِلَفْظِ النِّسَاءِ لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ ذَلِكَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ. وَقَوْلُهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [الْمَائِدَة: 64]، كِنَايَةٌ عَنْ سَعَةِ جُودِهِ وَكَرَمِهِ جِدًّا. خَامِسُهَا: قَصْدُ الِاخْتِصَارِ كَالْكِنَايَةِ عَنْ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِلَفْظِ فَعَلَ، نَحْو: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الْمَائِدَة: 79]، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [الْبَقَرَة: 24]؛ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. سَادِسُهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَصِيرِهِ، نَحْو: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [الْمَسَد: 1]؛ أَيْ: جَهَنَّمِيٌّ مَصِيرُهُ إِلَى اللَّهَبِ {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ} أَيْ: نَمَّامَةٌ مَصِيرُهَا إِلَى أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِجَهَنَّمَ فِي جِيدِهَا غُلٌّ. قَالَ بِدُرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاح: إِنَّمَا يُعْدَلُ عَنِ الصَّرَائِحِ إِلَى الْكِنَايَةِ بِنُكْتَةٍ كَالْإِيضَاحِ أَوْ بَيَانِ حَالِ الْمَوْصُوفِ أَوْ مِقْدَارِ حَالِهِ أَوِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ الِاخْتِصَارِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الصِّيَانَةِ أَوِ التَّعْمِيَةِ وَالْإِلْغَازِ أَوِ التَّعْبِيرِ عَنِ الصَّعْبِ بِالسَّهْلِ وَعَنِ الْمَعْنَى الْقَبِيحِ بِاللَّفْظِ الْحَسَنِ. وَاسْتَنْبَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَوْعًا مِنَ الْكِنَايَةِ غَرِيبًا، وَهُوَ أَنْ تَعْمَدَ إِلَى جُمْلَةٍ مَعْنَاهَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَتَأْخُذَ الْخُلَاصَةَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُفْرَدَاتِهَا بِالَحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَتُعَبِّرُ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقُولُ فِي، نَحْو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طَه: 5]، إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ، فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ عَلَى السَّرِيرِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مَعَ الْمُلْكِ، فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ، وَكَذَا قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67]، كِنَايَةٌ عَنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ذَهَابٍ بِالْقَبْضِ وَالْيَمِينِ إِلَى جِهَتَيْن: حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ.
تَذَنِيبٌ: مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الَّتِي تُشْبِهُ الْكِنَايَةَ الْإِرْدَافُ؛ وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى وَلَا يُعَبِّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَلَا بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، بَلْ بِلَفْظٍ يُرَادِفُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هُودٍ: 44]، وَالْأَصْلُ: وَهَلَكَ مَنْ قَضَى اللَّهُ هَلَاكَهُ، وَنَجَا مَنْ قَضَى اللَّهُ نَجَاتَهُ وَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى لَفْظِ الْإِرْدَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْهَالِكِ وَنَجَاةَ النَّاجِي كَانَ بِأَمْرِ آمِرٍ مُطَاعٍ، وَقَضَاءِ مَنْ لَا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ، وَالْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ آمِرًا، فَقَضَاؤُهُ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْآمِرِ بِهِ وَقَهْرِهِ، وَإِنَّ الْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ يَحُضَّانِ عَلَى طَاعَةِ الْأَمْرِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي اللَّفْظِ الْخَاصِّ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هُودٍ: 4]، حَقِيقَةُ ذَلِكَ: (جَلَسَتْ)، فَعَدَلَ عَنِ اللَّفْظِ الْخَاصِّ بِالْمَعْنَى إِلَى مُرَادِفِهِ لِمَا فِي الِاسْتِوَاءِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِجُلُوسٍ مُتَمَكِّنٍ لَا زَيْغَ فِيهِ وَلَا مَيْلَ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ مِنْ لَفْظِ الْجُلُوسِ. وَكَذَا: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرَّحْمَن: 56]، الْأَصْلُ: (عَفِيفَاتٌ)، وَعَدَلَ عَنْهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُنَّ مَعَ الْعِفَّةِ لَا تَطْمَحُ أَعْيُنُهُنَّ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَلَا يَشْتَهِينَ غَيْرَهُمْ. وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الْعِفَّةِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالْإِرْدَاف: أَنَّ الْكِنَايَةَ انْتِقَالٌ مِنْ لَازِمٍ إِلَى مَلْزُومٍ، وَالْإِرْدَافُ مِنْ مَذْكُورٍ إِلَى مَتْرُوكٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النَّجْم: 31]، عَدَلَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى عَنْ قَوْلِهِ بِـ (السُّوءَى)؛ أَيْ: مَعَ أَنَّ فِيهِ مُطَابَقَةً لِلْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى: {بِمَا عَمِلُوا {تَأَدُّبًا أَنْ يُضَافَ السُّوءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
لِلنَّاسِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِي الْقُرْآنِ عِبَارَاتٌ مُتَقَارِبَةٌ: فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْكِنَايَةُ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالتَّعْرِيضُ أَنْ تَذْكُرَ شَيْئًا تَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ تَذْكُرْهُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِير: الْكِنَايَةُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، بِوَصْفٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا. وَالتَّعْرِيضُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعْنًى، لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِ مَنْ يَتَوَقَّعُ صِلَةً: وَاللَّهِ إِنِّي مُحْتَاجٌ، فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ بِالطَّلَبِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِنَّمَا فُهِمْ مِنْ عَرْضِ اللَّفْظِ؛ أَيْ: جَانِبِهِ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي كِتَابِ الْإِغْرِيضُ فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: الْكِنَايَةُ لَفْظٌ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ مُرَادًا مِنْهُ لَازِمَ الْمَعْنَى، فَهِيَ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى حَقِيقَةً، وَالتَّجَوُّزُ فِي إِرَادَةِ إِفَادَةِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ، وَقَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى بَلْ يُعَبَّرُ بِالْمَلْزُومِ عَنِ اللَّازِمِ، وَهِيَ حِينَئِذٍ مَجَازٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التَّوْبَة: 81]، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِفَادَةَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، بَلْ إِفَادَةَ لَازِمِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرِدُونَهَا وَيَجِدُونَ حَرَّهَا إِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا. وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَهُوَ لَفْظٌ اسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ لِلتَّلْوِيحِ بِغَيْرِهِ، نَحْو: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الِأَنِبِيَاء: 93]، نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَى كَبِيرِ الْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ آلِهَةً، كَأَنَّهُ غَضِبَ أَنْ تُعْبَدَ الصِّغَارُ مَعَهُ تَلْوِيحًا لِعَابِدِهَا بِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ آلِهَةً لِمَا يَعْلَمُونَ إِذَا نَظَرُوا بِعُقُولِهِمْ مِنْ عَجْزِ كَبِيرِهَا عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا، فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَبَدًا. وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: التَّعْرِيضُ مَا سِيقَ لِأَجْلِ مَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَمِنْهُ أَنْ يُخَاطَبَ وَاحِدٌ وَيُرَادَ غَيْرُهُ، وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ أَمْيَلُ الْكَلَامِ إِلَى جَانِبٍ مُشَارًا بِهِ إِلَى آخَرَ. يُقَالُ: نَظَرَ إِلَيْهِ بِعُرْضِ وَجْهِهِ؛ أَيْ: جَانِبِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ يُفْعَلُ إِمَّا لِتَنْوِيهِ جَانِبَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْهُ: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [الْبَقَرَة: 253]؛ أَيْ: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَاءً لِقَدْرِهِ؛ أَيْ: أَنَّهُ الْعَلَمُ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ. وَإِمَّا لِتَلَطُّفٍ بِهِ وَاحْتِرَازٍ عَنِ الْمُخَاشَنَةِ، نَحْو: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22]؛ أَيْ: وَمَالَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِه: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22]، وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 23]، وَوَجْهُ حُسْنِهِ إِسْمَاعُ مَنْ يَقْصِدُ خِطَابَهُ الْحَقَّ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ غَضَبَهُ إِذْ لَمْ يُصَرِّحُ بِنِسْبِيَّتِهِ لِبَاطِلٍ وَالْإِعَانَةُ عَلَى قَبُولِهِ إِذْ لَمْ يُرِدْ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ لِنَفْسِهِ. وَإِمَّا لِاسْتِدْرَاجِ الْخَصْمِ إِلَى الْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَمِنْهُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]، خُوطِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُرِيدَ غَيْرُهُ لِاسْتِحَالَةِ الشِّرْكِ عَلَيْهِ شَرْعًا. وَإِمَّا لِلذَّمِّ، نَحْو: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرَّعْد: 19]، فَإِنَّهُ تَعْرِيضٌ لِذَمِّ الْكُفَّارِ، وَإِنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْبَهَائِمِ الَّذِينَ لَا يَتَذَكَّرُونَ. وَإِمَّا لِلْإِهَانَةِ وَالتَّوْبِيخِ، نَحْو: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التَّكْوِير: 8، 9]، فَإِنَّ سُؤَالَهَا لِإِهَانَةِ قَاتِلِهَا وَتَوْبِيخِهِ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ: التَّعْرِيضُ قِسْمَان: قِسْمٌ يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الْمَقْصُودِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِسْمٌ لَا يُرَادُ، بَلْ يُضْرَبُ مَثَلًا لِلْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التَّعْرِيضِ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الْأَنْبِيَاء: 63].
أَمَّا الْحَصْرُ، وَيُقَالُ لَهُ: الْقَصْرُ، فَهُوَ تَخْصِيصُ أَمْرٍ بِآخَرَ بِطَرِيقٍ مَخْصُوصٍ. وَيُقَالُ أَيْضًا: إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمَذْكُورِ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ. وَيَنْقَسِمُ إِلَى: قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، وَقَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا مَجَازِيٌ. مِثَالُ قَصْرِ الْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ حَقِيقَيًّا، نَحْوُ: مَا زَيْدٌ إِلَّا كَاتِبٌ؛ أَيْ: لَا صِفَةَ لَهُ غَيْرُهَا وَهُوَ عَزِيزٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِتَعَذُّرِ الْإِحَاطَةِ بِصِفَاتِ الشَّيْءِ حَتَّى يُمْكِنَ إِثْبَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا وَنَفْيُ مَا عَدَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَلَى عَدَمِ تَعَذُّرِهَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لِلذَّاتِ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا؛ وَلِذَا لَمْ يَقَعْ فِي التَّنْزِيلِ. وَمِثَالُهُ مَجَازِيًّا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 144]؛ أَيْ: أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّسَالَةِ لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي اسْتَعْظَمُوهُ الَّذِي هُوَ مِنْ شَأْنِ الْإِلَهِ. وَمِثَالُ قَصْرِ الصِّفَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ حَقِيقِيًّا: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19]، وَمِثَالُهُ مَجَازِيًّا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145]، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُول: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا كَانُوا يُحِلُّونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَكَانُوا يُحْرِّمُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَكَانَتْ سَجِيَّتُهُمْ تُخَالِفُ وَضْعَ الشَّرْعِ، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ مَسُوقَةً بِذِكْرِ شُبَهِهِمْ فِي الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَكَانَ الْغَرَضُ إِبَانَةَ كَذِبِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَرَامَ إِلَّا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ، وَالْغَرَضُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ وَالْمُضَادَّةُ لَا الْحَصْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.
وَيَنْقَسِمُ الْحَصْرُ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَصْرُ إِفْرَادٍ، وَقَصْرُ قَلْبٍ، وَقَصْرُ تَعْيِينٍ. فَالْأَوَّل: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، نَحْو: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النَّحْل: 51]، خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ اشْتَرَاكَ اللَّهِ وَالْأَصْنَامِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ. وَالثَّانِي: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ لِغَيْرِ مَنْ أَثْبَتَهُ الْمُتَكَلِّمُ لَهُ، نَحْو: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الْبَقَرَة: 258] خُوطِبَ بِهِ نَمْرُوذٌ الَّذِي اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ دُونَ اللَّهِ. {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [الْبَقَرَة: 13]، خُوطِبَ بِهِ مَنِ اعْتَقَدَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ سُفَهَاءُ دُونَهُمْ. {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النِّسَاء: 79]، خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ مِنَ الْيَهُودِ اخْتِصَاصَ بِعْثَتِهِ بِالْعَرَبِ. وَالثَّالِثُ: يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ تَسَاوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ، فَلَمْ يَحْكُمْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَةِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ وَلَا لِوَاحِدِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ بِعَيْنِهَا.
طُرُقُ الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ. أَحَدُهَا: النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ سَوَاءً كَانَ النَّفْيُ بِلَا أَوْ مَا أَوْ غَيْرِهِمَا. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِإِلَا أَوْ غَيْرِ، نَحْو: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّات: 35]، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 62]، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [الْمَائِدَة: 117]. وَوَجْهُ إِفَادَةِ الْحَصْرِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَفَرِّغَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّفْيُ فِيهِ إِلَى مُقَدَّرٍ وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى مَخْرَجٍ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ التَّقْدِيرُ الْمَعْنَوِيُّ لَا الصِّنَاعِيُّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَامًّا؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَامٍّ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلْمُسْتَثْنَى فِي جِنْسِهِ، مِثْلُ: مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ؛ أَيْ: أَحَدٌ، وَمَا أَكَلْتُ إِلَّا تَمْرًا؛ أَيْ: مَأْكُولًا. وَلَا بُدَّ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي صِفَتِهِ؛ أَيْ: إِعْرَابِهِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَصْرُ إِذَا أُوجِبَ مِنْهُ شَيْءٌ بِإِلَّا ضَرُورَةً، بِبَقَاءِ مَا عَدَاهُ عَلَى صِفَةِ الِانْتِفَاءِ. وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ هَذَا الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ فَيُنَزَّلَ الْمَعْلُومُ مَنْزِلَةَ الْمَجْهُولِ لِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ، نَحْو: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 144]، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَلُونَ رِسَالَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ نَزَّلَ اسْتِعْظَامَهُمْ لَهُ عَنِ الْمَوْتِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَجْهَلُ رِسَالَتَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ لَا بُدَّ مِنْ مَوْتِهِ فَمَنِ اسَتَبْعَدَ مَوْتَهُ فَكَأَنَّهُ اسَتَبْعَدَ رِسَالَتَهُ. الثَّانِي: إِنَّمَا الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ فَقِيلَ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ: بِالْمَفْهُومِ. وَأَنْكَرَ قَوْمٌ إِفَادَتَهَا، مِنْهُمْ أَبُو حَيَّانَ، وَاسْتَدَلَّ مُثْبِتُوهُ بِأُمُورٍ. مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [الْبَقَرَة: 173]، بِالنَّصْبِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمِيتَةَ؛ لِأَنَّهُ الْمُطَابِقُ فِي الْمَعْنَى لِقِرَاءَةِ الرَّفْعِ، فَإِنَّهَا لِلْقَصْرِ، فَكَذَا قِرَاءَةُ النَّصْبِ، وَالْأَصْلُ اسْتِوَاءُ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ. وَمِنْهَا أَنَّ (إِنَّ) لِلْإِثْبَاتِ وَمَا لِلنَّفْيِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ الْقَصْرُ لِلَجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لَكِنْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ (مَا) زَائِدَةً كَافَّةً لَا نَافِيَةً. وَمِنْهَا: أَنَّ (إِنَّ) لِلتَّأْكِيدِ وَ(مَا) كَذَلِكَ فَاجْتَمَعَ تَأْكِيدَانِ فَأَفَادَ الْحَصْرَ، قَالَهُ السَّكَّاكِي. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ تَأْكِيدَيْنِ يُفِيدُ الْحَصْرَ لَأَفَادَهُ، نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مُرَادَهُ: لَا يَجْتَمِعُ حَرْفَا تَأْكِيدٍ مُتَوَالِيَانِ إِلَّا لِلْحَصْرِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَحْقَاف: 23]، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} [هُودٍ: 33]، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الْأَعْرَاف: 187]، فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَحْصُلُ مُطَابَقَةُ الْجَوَابِ إِذَا كَانَتْ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ لِيَكُونَ مَعْنَاهَا: لَا آتِيكُمْ بِهِ إِنَّمَا يَأْتِي بِهِ اللَّهُ، وَلَا أَعْلَمُهَا إِنَّمَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشُّورَى: 41، 42]، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} إِلَى قَوْلِه: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التَّوْبَة: 91- 93]. {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الْأَعْرَاف: 203]، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آلِ عِمْرَانَ: 20]، لَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا إِلَّا بِالْحَصْرِ، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَعْمَلُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَوَاقِعِ التَّعْرِيضِ، نَحْو: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}. الثَّالِثُ: (أَنَّمَا) بِالْفَتْحِ عَدَّهَا مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ فَقَالَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْأَنْبِيَاء: 108] إِنَّمَا لِقَصْرِ الْحُكْمِ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ لِقَصْرِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمٍ، نَحْوُ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} مَعَ فَاعِلِهِ بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا يَقُومُ زَيْدٌ، وَ{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ} بِمَنْزِلَةِ إِنَّمَا زِيدٌ قَائِمٌ. وَفَائِدَةُ اجْتِمَاعِهِمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورٌ عَلَى اسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَصَرَّحَ التَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ بِكَوْنِهَا لِلْحَصْرِ، فَقَالَ: كُلَّمَا أَوْجَبَ أَنَّ إِنَّمَا بِالْكَسْرِ لِحَصْرٍ أَوْجَبَ أَنَّ إِنَّمَا بِالْفَتْحِ لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَنْهَا، وَمَا ثَبَتَ لِلْأَصْلِ ثَبَتَ لِلْفَرْعِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَانِعٌ مِنْهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَرَدَّ أَبُو حَيَّانَ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ مَا زَعَمَهُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ انْحِصَارُ الْوَحْيِ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْمَقَامِ. الرَّابِعُ: الْعَطْفُ بِلَا أَوْ بَلْ، ذَكَرَهُ أَهْلُ الْبَيَانِ، وَلَمْ يَحْكُوا فِيهِ خِلَافًا نَازَعَ فِيهِ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ، فَقَالَ: أَيُّ قَصْرٍ فِي الْعَطْفِ بِلَا إِنَّمَا فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَقَوْلُكَ زَيْدٌ شَاعِرٌ لَا كَاتِبٌ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِنَفْيِ صِفَةٍ ثَالِثَةٍ، وَالْقَصْرُ إِنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ غَيْرِ الْمُثْبَتِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا بِنَفْيِ الصِّفَةِ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْمُخَاطَبُ، وَأَمَّا الْعَطْفُ بِبَلْ فَأَبْعَدُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ فِيهَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ. الْخَامِسُ: تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ، نَحْو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]، {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 158]، وَخَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهِ قَرِيبًا. السَّادِسُ: ضَمِيرُ الْفَصْلِ، نَحْو: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشُّورَى: 9]؛ أَيْ: لَا غَيْرُهُ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَة: 5]، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آلِ عِمْرَانَ: 62]، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الْكَوْثَر: 3]، وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهُ لِلْحَصْرِ الْبَيَانِيُّونَ فِي بَحْثِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ: أُتِيَ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ادُّعِيَ فِيهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِهِ حَيْثُ لَمْ يُدَّعَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النَّجْم: 43]، إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، فَلَمْ يُؤْتَ بِهِ فِي: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النَّجْم: 45]، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ} [النَّجْم: 47]، {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النَّجْم: 50]؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُدَّعَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَأُتِيَ بِهِ فِي الْبَاقِي لِادِّعَائِهِ لِغَيْرِهِ. قَالَ فِي عَرُوسُ الْأَفْرَاحِ: وَقَدِ اسْتَنْبَطْتُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحَصْرِ مِنْ قَوْلِه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [الْمَائِدَة: 117]؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَصْرِ لَمَا حَسُنَ، لَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ رَقِيبًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا الَّذِي حَصَلَ بِتَوْفِيَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَقِيبٌ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ قَوْلِه: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْحَشْر: 20]، فَإِنَّهُ ذُكِرَ لِتَبْيِينِ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلِاخْتِصَاصِ. السَّابِعُ: تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِر: قَدْ يُقَدَّمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ لِيُفِيدَ تَخْصِيصَهُ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ. وَالْحَاصِلُ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ لَهُ أَحْوَالًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ مَعْرِفَةً، وَالْمُسْنَدُ مُثْبَتًا، فَيَأْتِي لِلتَّخْصِيصِ، نَحْوُ: أَنَا قُمْتُ وَأَنَا سَعَيْتُ فِي حَاجَتِكَ. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ قَصْرُ الْإِفْرَادِ أُكِّدَ بِنَحْوِ (وَحْدِي) أَوْ قَصْرُ الْقَلْبِ أُكِّدَ بِنَحْوِ (لَا غَيْرِي) وَمِنْهُ: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النَّمْل: 36]، فَإِنَّ مَا قَبْلُهُ مِنْ قَوْلِه: {أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} [النَّمْل: 36]، وَلَفْظُ (بَلْ) الْمُشْعِرُ بِالْإِضْرَابِ يَقْضِي بِأَنَّ الْمُرَادَ: بَلْ أَنْتُمْ لَا غَيْرُكُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ فَرَحِهِ هُوَ بِالْهَدِيَّةِ، لَا إِثْبَاتُ الْفَرَحِ لَهُمْ بِهَدِيَّتِهِمْ. قَالَهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ. قَالَ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التَّوْبَة: 101]؛ أَيْ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا نَحْنُ. وَقَدْ يَأْتِي لِلتَّقْوِيَةِ وَالتَّأْكِيدِ دُونَ التَّخْصِيصِ. قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ مَنْفِيًّا، نَحْوُ: (أَنْتَ لَا تَكْذِبُ) فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي نَفْيِ الْكَذِبِ مِنْ (لَا تَكْذِبْ) وَمِنْ (لَا تَكْذِبْ أَنْتَ). وَقَدْ يُفِيدُ التَّخْصِيصُ وَمِنْهُ: {فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [الْقَصَص: 66]. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ نَكِرَةً مُثْبَتًا، نَحْوُ: رَجُلٌ جَاءَنِي، فَيُفِيدُ التَّخْصِيصَ إِمَّا بِالْجِنْسِ؛ أَيْ: لَا امْرَأَةٌ، أَوِ الْوِحْدَةُ؛ أَيْ: لَارَجُلَانِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَلِيَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ حَرْفَ النَّفْيِ فَيُفِيدُهُ، نَحْوُ: مَا أَنَا قُلْتُ هَذَا؛ أَيْ: لَمْ أَقُلْهُ، مَعَ أَنَّ غَيْرِي قَالَهُ، وَمِنْهُ: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هُودٍ: 91]؛ أَي: الِعَزِيزُ عَلَيْنَا رَهْطُكَ لَا أَنْتَ، وَلِذَا قَالَ: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هُودٍ: 92]. هَذَا حَاصِلُ رَأَيِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، وَوَافَقَهُ السَّكَّاكِيُّ، وَزَادَ شُرُوطًا وَتَفَاصِيلَ بَسَطْنَاهَا فِي شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْمَعَانِي. الثَّامِنُ: تَقْدِيمُ الْمَسْنَدِ، ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ النَّفِيسِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ صَرَّحَ السَّكَّاكِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُهُ، وَمَثَّلُوهُ بِنَحْو: تَمِيمِيٌّ أَنَا. التَّاسِعُ: ذِكْرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. ذَكَرَ السَّكَّاكِيُّ أَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِيُفِيدَ التَّخْصِيصَ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ، وَصَرَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّهُ أَفَادَ الِاخْتِصَاصَ فِي قَوْلِه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [الرَّعْد: 26]، وَفِي قَوْلِه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزُّمَر: 23]، وَفِي قَوْلِه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الْأَحْزَاب: 4]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ تَقْدِيمَهُ أَفَادَهُ فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الطَّرِيقِ السَّابِعِ. الْعَاشِرُ: تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ، ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي نِهَايَةِ الْإِيجَازِ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ حَقِيقَةً أَوْ مُبَالَغَةً، نَحْوُ: الْمُنْطَلِقُ زَيْدٌ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ فِيمَا ذَكَرَ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الْفَاتِحَة: 2]، قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَمَا فِي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَي: الِحَمْدُ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ. الْحَادِي عَشَرَ:، نَحْوُ: جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ نَقَلَ بَعْضُ شُرَّاحِ التَّلْخِيصِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ. الثَّانِي عَشَرَ:، نَحْوُ: إِنَّ زَيْدًا لِقَائِمٌ نَقَلَهُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا. الثَّالِثَ عَشَرَ:، نَحْوُ: قَائِمٌ فِي جَوَاب: زَيْدٌ إِمَّا قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فِي شَرْحِ التِّبْيَانِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: قَلْبُ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ عَلَى مَا نَقَلَهُ فِي الْكَشَّافِ فِي قَوْلِه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزُّمَر: 17]، قَالَ: الْقَلْبُ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَفْظِ الطَّاغُوتِ؛ لِأَنَّ وَزْنَهُ عَلَى قَوْلِ فَعَلُوتٍ مِنَ الطُّغْيَانِ كَمَلَكُوتٍ وَرَحَمُوتٍ، قُلِبَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ، فَوَزْنُهُ فَلَعُوتٌ فَفِيهِ مُبَالَغَاتُ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ، وَالْبِنَاءُ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ، وَالْقَلْبُ، وَهُوَ لِلِاخْتِصَاصِ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الشَّيْطَانِ.
كَادَ أَهْلُ الْبَيَانِ يُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ فِي الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَ مَفْعُولًا أَوْ ظَرْفًا أَوْ مَجْرُورًا، وَلِهَذَا قِيلَ فِي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]، مَعْنَاهُ: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ. وَفِي: {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 158]، مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ وَفِي: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [الْبَقَرَة: 143]، أُخِّرَتِ الصِّلَةُ فِي الشَّهَادَةِ الْأُولَى، وَقُدِّمَتْ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ شَهَادَتِهِمْ، وَفِي الثَّانِي إِثْبَاتُ اخْتِصَاصِهِمْ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْحَاجِبِ فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّل: الِاخْتِصَاصُ الَّذِي يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ وَهْمٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزُّمَر: 2]، ثُمَّ قَالَ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزُّمَر: 66]، وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِأَنَّ: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أَغْنَى عَنْ إِفَادَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ذِكْرِ الْمَحْصُورِ فِي مَحَلٍّ بِغَيْرِ صِيغَةِ الْحَصْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الْحَجّ: 77]، وَقَالَ: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يُوسُفَ: 40]، بَلْ قَوْلُهُ: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ الِاخْتِصَاصِ فَإِنَّ قَبْلَهَا {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَر: 65]، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِصَاصِ وَكَانَ مَعْنَاهَا (اعْبُدِ اللَّهَ) لَمَا حَصَلَ الْإِضْرَابُ الَّذِي هُوَ مَعْنَى (بَلْ). وَاعْتَرَضَ أَبُو حَيَّانَ عَلَى مُدَّعِي الِاخْتِصَاصِ بِنَحْو: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزُّمَر: 64]، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْبُدِ اللَّهَ كَانَ أَمْرُهُمْ بِالشِّرْكِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَخْصِيصِ غَيْرِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ. وَرَدَّ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ الِاخْتِصَاصَ بِقَوْلِه: {كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الْأَنْعَام: 84]، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى مَا رُدَّ بِهِ. وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يُدَّعَى فِيهِ اللُّزُومُ، بَلِ الْغَلَبَةُ، وَقَدْ يَخْرُجُ الشَّيْءُ عَنِ الْغَالِبِ. قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَقَدِ اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الْأَنْعَام: 40، 41]، فَإِنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْأَوَّلِ قَطْعًا لَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي (إِيَّاهُ) قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ. وَقَالَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الِاقْتِنَاصِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَصْرِ وَالِاخْتِصَاص: اشْتَهَرَ كَلَامُ النَّاسِ فِي أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: إِنَّمَا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِه: وَهُمْ يُقَدِّمُونَ مَا هُمْ بِهِ أَعَنَى. وَالْبَيَانِيُّونَ عَلَى إِفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ، وَيَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْحَصْرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ شَيْءٌ وَالْحَصْرُ شَيْءٌ آخَرُ وَالْفُضَلَاءُ لَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ لَفْظَةَ الْحَصْرِ؛ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا بِالِاخْتِصَاصِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَصْرَ نَفْيُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ وَإِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، وَالِاخْتِصَاصُ قَصْدُ الْخَاصِّ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ افْتِعَالٌ مِنَ الْخُصُوصِ، وَالْخُصُوصُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْن: أَحَدُهُمَا عَامٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ. وَالثَّانِي: مَعْنًى مُنْضَمٌّ إِلَيْهِ يَفْصِلُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَضَرَبَ زَيْدٌ فَإِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الضَّرْبِ. فَإِذَا قُلْتَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا، أَخْبَرْتَ بِضَرْبٍ عَامٍّ وَقَعَ مِنْكَ عَلَى شَخْصٍ خَاصٍّ، فَصَارَ ذَلِكَ الضَّرْبُ الْمُخْبَرُ بِهِ خَاصًّا لِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْكَ وَمِنْ زَيْدٍ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ- أَعْنِي مُطْلَقَ الضَّرْبِ، وَكَوْنَهُ وَاقِعًا مِنْكَ، وَكَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى زَيْدٍ- قَدْ يَكُونُ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا ثَلَاثَتَهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ قَصْدُهُ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ كَلَامَهُ، فَإِنَّ الِابْتِدَاءَ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَرْجَحُ فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ. فَإِذَا قُلْتَ: زَيْدًا ضَرَبْتُ، عُلِمَ أَنَّ خُصُوصَ الضَّرْبِ عَلَى زَيْدٍ هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ مِنْ خَاصٍّ وَعَامٍّ لَهُ جِهَتَانِ، فَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِ، وَالثَّانِي هُوَ الِاخْتِصَاصُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَ إِفَادَتَهُ السَّامِعَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ، وَلَا قَصْدٍ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتٍ وَلَا نَفْيٍ، فَفِي الْحَصْرِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَيْهِ وَهُوَ نَفْيُ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ؛ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي هَذَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَة: 5]، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ قَائِلِيهِ لَا يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلِذَا لَمْ يَطَّرِدْ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 83]، لَوْ جُعِلَ فِي مَعْنَى: (مَا يَبْغُونَ إِلَّا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ) وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ دَاخِلَةٌ عَلَيْهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ الْحَصْرَ لَا مُجَرَّدَ بَغْيِهِمْ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادَ، وَكَذَلِكَ: {آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصَّافَّات: 86]، الْمُنْكَرُ إِرَادَتُهُمْ آلِهَةً دُونَ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ، وَقَدْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4]، فِي تَقْدِيمِ الْآخِرَةِ وَبِنَاءِ (يُوقِنُونَ) عَلَى (هُمْ) تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتِ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى خِلَافِ حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ إِيقَانٍ، وَأَنَّ الْيَقِينَ مَا عَلَيْهِ مَنْ آمَنَ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: تَقْدِيمُ الْآخِرَةِ أَفَادَ أَنَّ إِيقَانَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى أَنَّهُ إِيقَانٌ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنْ قَائِلِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا فَهِمَهُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَرِض: وَتَقْدِيمُ (هُمْ) أَفَادَ أَنَّ هَذَا الْقَصْرَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فَيَكُونُ إِيقَانُ غَيْرِهِمْ بِالْآخِرَةِ إِيمَانًا بِغَيْرِهَا؛ حَيْثُ قَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} [الْبَقَرَة: 80]، وَهَذَا مِنْهُ- أَيْضًا- اسْتِمْرَارٌ عَلَى مَا فِي ذِهْنِهِ مِنَ الْحَصْرِ؛ أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُوقِنُونَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا. وَهَذَا فَهْمٌ عَجِيبٌ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ فَهَمُهُ الْحَصْرَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ فَالْحَصْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: بِـ (مَا) وَ(إِلَّا) كَقَوْلِكَ: (مَا قَامَ إِلَّا زَيْدٌ) صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَيَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ. قِيلَ بِالْمَنْطُوقِ، وَقِيلَ بِالْمَفْهُومِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لَكِنَّهُ أَقْوَى الْمَفَاهِيمِ؛ لِأَنَّ (إِلَّا) مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ الْإِخْرَاجُ، فَدَلَالَتُهَا عَلَى الْإِخْرَاجِ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ، وَلَكِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْقِيَامِ بَلْ قَدْ يَسْتَلْزِمُهُ، فَلِذَلِكَ رَجَّحْنَا أَنَّهُ بِالْمَفْهُومِ، وَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ الْمَنْطُوقُ. وَالثَّانِي: الْحَصْرُ بِـ (إِنَّمَا) وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ جَانِبُ الْإِثْبَاتِ فِيهِ أَظْهَرَ فَكَأَنَّهُ يُفِيدُ إِثْبَاتَ قِيَامِ زَيْدٍ، إِذَا قُلْتَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ بِالْمَنْطُوقِ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ بِالْمَفْهُومِ. الثَّالِثُ: الْحَصْرُ الَّذِي قَدْ يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، مِثْلُ الْحَصْرَيْنِ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ فِي قُوَّةِ جُمْلَتَيْن: إِحْدَاهُمَا مَا صَدَرَ بِهِ الْحُكْمُ نَفْيًا كَانَ أَوْ إِثْبَاتًا، وَهُوَ الْمَنْطُوقُ، وَالْأُخْرَى مَا فُهِمَ مِنَ التَّقْدِيمِ، وَالْحَصْرُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمَنْطُوقِ فَقَطْ دُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِذَا قُلْتَ: أَنَا لَا أُكْرِمُ إِلَّا إِيَّاكَ أَفَادَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ غَيْرَكَ يُكْرِمُ غَيْرَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّكَ لَا تُكْرِمُهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النُّور: 3]، أَفَادَ أَنَّ الْعَفِيفَ قَدْ يَنْكِحُ غَيْرَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ نِكَاحِهِ الزَّانِيَةَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَهُ: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النُّور: 3]، بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ، فَلَوْ قَالَ: (بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ) أَفَادَ بِمَنْطُوقِهِ إِيقَانَهُمْ بِهَا وَمَفْهُومُهُ عِنْدَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ قُوَّةُ إِيقَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ حَتَّى صَارَ غَيْرُهَا عِنْدَهُمْ كَالْمَدْحُوضِ، فَهُوَ حَصْرٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ دُونَ قَوْلِنَا: يُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَا بِغَيْرِهَا، فَاضْبِطْ هَذَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ: لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَتَقْدِيمُ (هُمْ) أَفَادَ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَوْ جَعَلْنَا التَّقْدِيرَ: لَا يُوقِنُونَ إِلَّا بِالْآخِرَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُهِمُّ: النَّفْيَ، فَيَتَسَلَّطُ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِفَادَةَ أَنَّ غَيْرَهُمْ يُوقِنُ بِغَيْرِهَا كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ، وَيُطْرَحُ إِفْهَامُ أَنَّهُ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، بَلِ الْمُرَادُ إِفْهَامُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُوقِنُ بِالْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ حَافَظْنَا عَلَى أَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ إِثْبَاتُ الْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ لِيَتَسَلَّطَ الْمَفْهُومُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى الْحَصْرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مِثْلِ (مَا) (وَإِلَّا) وَمِثْلِ (إِنَّمَا)، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِمَفْهُومٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ مَنْطُوقٍ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُتَقَيِّدًا بِالْآخَرِ حَتَّى تَقُولَ إِنَّ الْمَفْهُومَ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ الْمَحْصُورِ، بَلْ أَفَادَ نَفْيَ الْإِيقَانِ مُطْلَقًا عَنْ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْحَصْرِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ وَنَقُولُ: إِنَّهُ اخْتِصَاصٌ، وَإِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا. انْتَهَى كَلَامُ السُّبْكِيِّ.
اعْلَمْ أَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ، حَتَّى نَقَلَ صَاحِبُ سِرِّ الْفَصَاحَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: اللُّغَةُ هِيَ الْإِيجَازُ وَالْإِطْنَابُ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّاف: كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَلِيغِ فِي مَظَانِّ الْإِجْمَالِ أَنْ يُجْمِلَ وَيُوجِزَ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي مَوَارِدِ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفَصِّلَ وَيُشْبِعَ، أَنْشَدَ الْجَاحِظُ: يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً *** وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
وَاخْتُلِفَ: هَلْ بَيْنَ الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ وَاسِطَةٌ، وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ أَوْ لَا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قِسْمِ الْإِيجَازِ؟ فَالسَّكَّاكِيُّ وَجَمَاعَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا الْمُسَاوَاةَ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ وَلَا مَذْمُومَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ كَلَامِ أَوْسَاطِ النَّاسِ الَّذِينَ لَيْسُوا فِي رُتْبَةِ الْبَلَاغَةِ، وَفَسَّرُوا الْإِيجَازَ بِأَدَاءِ الْمَقْصُودِ بِأَقَلِّ مِنْ عِبَارَةِ الْمُتَعَارَفِ، وَالْإِطْنَابُ أَدَاؤُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا؛ لِكَوْنِ الْمَقَامِ خَلِيقًا بِالْبَسْطِ. وَابْنُ الْأَثِيرِ وَجَمَاعَةٌ عَلَى الثَّانِي، فَقَالُوا: الْإِيجَازُ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمُرَادِ بِلَفْظٍ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالْإِطْنَابُ بِلَفْظٍ أَزْيَدَ. وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: الْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ طُرُقِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ تَأْدِيَةُ أَصْلِهِ، إِمَّا بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ الْمُرَادِ، أَوْ نَاقِصٍ عَنْهُ وَافٍ، أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهِ لِفَائِدَةٍ. وَالْأَوَّلُ الْمُسَاوَاةُ، وَالثَّانِي الْإِيجَازُ، وَالثَّالِثُ الْإِطْنَابُ. وَاحْتَرَزَ بِوَافٍ عَنِ الْإِخْلَالِ، وَبِقَوْلِنَا لِفَائِدَةٍ عَنِ الْحَشْوِ وَالتَّطْوِيلِ، فَعِنْدَهُ ثُبُوتُ الْمُسَاوَاةِ وَاسِطَةٌ، وَأَنَّهَا مِنْ قِسْمِ الْمَقْبُولِ. فَإِنْ قُلْتَ: عَدَمُ ذِكْرِكَ الْمُسَاوَاةَ فِي التَّرْجَمَةِ لِمَاذَا؟ هَلْ هُوَ لِرُجْحَانِ نَفْيِهَا أَوْ عَدَمِ قَبُولِهَا أَوْ لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: لَهُمَا وَلِأَمْرٍ ثَالِثٍ؛ وَهُوَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَكَادُ تُوجَدُ خُصُوصًا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ مَثَّلَ لَهَا فِي التَّلْخِيصِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فَاطِرٍ: 43]، وَفِي الْإِيضَاحِ بِقَوْلِه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الْأَنْعَام: 68]، وَتُعُقِّبَ: بِأَنَّ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ حَذْفَ مَوْصُوفِ (الَّذِينَ)، وَفِي الْأَوْلَى إِطْنَابٌ بِلَفْظِ السَّيِّئِ؛ لِأَنَّ الْمَكْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا سَيِّئًا، وَإِيجَازٌ بِالْحَذْفِ إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرَ مُفَرَّغٍ؛ أَيْ: بِأَحَدٍ، وَبِالْقَصْرِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِكَوْنِهَا حَاثَّةً عَلَى كَفِّ الْأَذَى عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، مُحَذِّرَةً عَنْ جَمِيعِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ، وَبِأَنَّ تَقْدِيرَهَا يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ مَضَرَّةً بَلِيغَةً، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّ (يَحِيقُ) بِمَعْنَى (يُحِيطُ)، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ.
تَنْبِيهٌ: الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمِفْتَاحِ، وَصَرَّحَ بِهِ الطِّيبِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاخْتِصَارُ خَاصٌّ بِحَذْفِ الْجُمَلِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْإِيجَازِ. قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَالْإِطْنَابُ قِيلَ: بِمَعْنَى الْإِسْهَابِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَإِنَّ الْإِسْهَابَ التَّطْوِيلُ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ، ذَكَرَهُ التَّنُوخِيُّ وَغَيْرُهُ.
الْإِيجَازُ قِسْمِان: إِيجَازُ قَصْرٍ وَإِيجَازُ حَذْفٍ.
فَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجِيزُ بِلَفْظِهِ. قَالَ الشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّين: الْكَلَامُ الْقَلِيلُ إِنْ كَانَ بَعْضًا مِنْ كَلَامٍ أَطْوَلَ مِنْهُ فَهُوَ إِيجَازُ حَذْفٍ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا يُعْطِي مَعْنًى أَطْوَلَ مِنْهُ فَهُوَ إِيجَازُ قَصْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِيجَازُ الْقَصْرِ هُوَ تَكْثِيرُ الْمَعْنَى بِتَقْلِيلٍ اللَّفْظِ. وَقَالَ آخَرُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى أَقَلَّ مِنَ الْقَدْرِ الْمَعْهُودِ عَادَةً، وَسَبَبُ حُسْنِهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْفَصَاحَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُوتِيَتْ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»، وَقَالَ الطِّيبِيُّ فِي التِّبْيَانِ: الْإِيجَازُ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: إِيجَازُ الْقَصْر: وَهُوَ أَنْ يُقْصَرَ اللَّفْظُ عَلَى مَعْنَاهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ كَقَوْلِه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِه: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النَّمْل: 30، 31]، جَمَعَ فِي أَحْرُفِ الْعُنْوَانِ وَالْكِتَابِ وَالْحَاجَةِ. وَقِيلَ: فِي وَصْفٍ بَلِيغٍ: كَانَتْ أَلْفَاظُهُ قَوَالِبَ مَعْنَاهُ. قُلْتُ: وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُدْخِلُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِيجَازِ. الثَّانِي: إِيجَازُ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْمَنْطُوقِ، مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ وَيُسَمَّى بِالتَّضْيِيقِ أَيْضًا، وَبِهِ سَمَّاهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاحِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ مَا صَارَ لَفْظُهُ أَضْيَقَ مِنْ قَدْرِ مَعْنَاهُ، نَحْو: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [الْبَقَرَة: 275]؛ أَيْ: خَطَايَاهُ غُفِرَتْ فَهِيَ لَهُ لَا عَلَيْهِ. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2]؛ أَي: الضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ بَعْدَ الضَّلَالِ إِلَى التَّقْوَى. الثَّالِثُ: الْإِيجَازُ الْجَامِعُ، وَهُوَ أَنْ يَحْتَوِيَ اللَّفْظُ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيجَازِ الْخَالِي مِنَ الْحَذْفِ، نَحْو: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ [النَّحْل: 90]، فَإِنَّ الْعَدْلَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، الْمُومَى بِهِ إِلَى جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْعُبُودِيَّةِ. وَالْإِحْسَانُ: هُوَ الْإِخْلَاصُ فِي وَاجِبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ لِتَفْسِيرِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ»؛ أَيْ: تَعَبُّدَهُ مُخْلِصًا فِي نِيَّتِكَ، وَوَاقِفًا فِي الْخُضُوعِ، آخِذًا أُهْبَةَ الْحَذَرِ إِلَى مَا لَا يُحْصَى. {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} هُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّوَافِلِ. هَذَا فِي الْأَوَامِرِ، وَأَمَّا النَّوَاهِي: فَبِـ (الْفَحْشَاءِ) الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَبِـ (الْمُنْكِرِ) إِلَى الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ مِنْ آثَارِ الْغَضَبِيَّةِ، أَوْ كُلِّ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَبِـ (الْبَغْيِ) إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْفَائِضِ عَنِ الْوَهْمِيَّةِ. قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَجْمَعُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) أَخْرَجَهُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا يَوْمًا ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمَعَ لَكُمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمْعَهُ، وَلَا تَرْكَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكِرُ وَالْبَغِيُّ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا جَمَعَهُ. قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) وَرَوَى أَيْضًا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ الشَّيْخَيْن: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 199]، فَإِنَّهَا جَامِعَةٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِ الْعَفْوِ التَّسَاهُلَ وَالتَّسَامُحَ فِي الْحُقُوقِ وَاللِّينَ وَالرِّفْقَ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الدِّينِ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ كَفُّ الْأَذَى وَغَضُّ الْبَصَرِ وَمَا شَاكَلَهُمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَفِي الْإِعْرَاضِ بِالصَّبْرِ وَالْحِلْمِ وَالتُّؤَدَةِ. وَمِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاص: 1]، إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهُ نِهَايَةُ التَّنْزِيهِ وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الرَّدَّ عَلَى نَحْو: أَرْبَعِينَ فِرْقَةً، كَمَا أَفْرَدَ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ شَدَّادٍ. وَقَوْلُهُ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النَّازِعَات: 31]، دَلَّ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ عَلَى جَمِيعِ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ قُوتًا وَمَتَاعًا لِلْأَنَامِ مِنَ الْعُشْبِ وَالشَّجَرِ وَالْحَبِّ وَالثَّمَرِ وَالْعَصْفِ وَالْحَطَبِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّارِ وَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّ النَّارَ مِنَ الْعِيدَانِ وَالْمِلْحَ مِنَ الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} [الْوَاقِعَة: 19]، جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ عُيُوبِ الْخَمْرِ مِنَ الصُّدَاعِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ، وَذَهَابِ الْمَالِ، وَنَفَاذِ الشَّرَابِ. وَقَوْلُهُ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الْآيَةَ [هُودٍ: 44]، أَمَرَ فِيهَا وَنَهَى وَأَخْبَرَ وَنَادَى، وَنَعَتَ وَسَمَّى، وَأَهْلَكَ وَأَبْقَى، وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، وَقَصَّ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا لَوْ شُرِحَ مَا انْدَرَجَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ بَدِيعِ اللَّفْظِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ وَالْبَيَانِ لَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ بَلَاغَةَ هَذِهِ الْآيَةِ بِالتَّأْلِيفِ. وَفِي الْعَجَائِبِ لِلْكِرْمَانِيّ: أَجْمَعَ الْمُعَانِدُونَ عَلَى أَنَّ طَوْقَ الْبَشَرِ قَاصِرٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ أَنْ فَتَّشُوا جَمِيعَ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَمْ يَجِدُوا مِثْلَهَا فِي فَخَامَةِ أَلْفَاظِهَا، وَحُسْنِ نَظْمِهَا، وَجَوْدَةِ مَعَانِيهَا فِي تَصْوِيرِ الْحَالِ مَعَ الْإِيجَازِ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} الْآيَةَ [النَّمْل: 18]، جَمَعَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَحَدَ عَشَرَ جِنْسًا مِنَ الْكَلَام: نَادَتْ، وَكَنَّتْ، وَنَبَّهَتْ، وَسَمَّتْ، وَأَمَرَتْ، وَقَصَّتْ، وَحَذَّرَتْ، وَخَصَّتْ، وَعَمَّتْ، وَأَشَارَتْ، وَعَذَرَتْ. فَالنِّدَاءُ: (يَا)، وَالْكِنَايَةُ: (أَيْ)، وَالتَّنْبِيهُ: (هَا)، وَالتَّسْمِيَةُ: (النَّمْلُ)، وَالْأَمْرُ: (ادْخُلُوا)، وَالْقَصَصُ: (مَسَاكِنَكُمْ)، وَالتَّحْذِيرُ: (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ)، وَالتَّخْصِيصُ: (سُلَيْمَانُ)، وَالتَّعْمِيمُ: (جُنُودُهُ)، وَالْإِشَارَةُ: (وَهُمْ)، وَالْعُذْرُ: (لَا يَشْعُرُونَ)، فَأَدَّتْ خَمْسَةَ حُقُوقٍ: حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ رَسُولِهِ، وَحَقَّهَا، وَحَقَّ رَعِيَّتِهَا، وَحَقَّ جُنُودِ سُلَيْمَانَ. وَقَوْلُهُ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 31]، جُمِعَ فِيهَا أُصُولُ الْكَلَام: النِّدَاءُ، وَالْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ، وَالْأَمْرُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَمَعَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي شَطْرِ آيَة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَاف: 31]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الْآيَةَ [الْقَصَص: 7]، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ: هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيٍ فِي الْقُرْآنِ فَصَاحَةً؛ إِذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ. وَقَوْلُهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الْحِجْر: 94]، قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: الْمَعْنَى صَرِّحَ بِجَمِيعِ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ، وَبَلِّغْ كُلَّ مَا أُمِرْتَ بِبَيَانِهِ، وَإِنْ شَقَّ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْقُلُوبِ فَانْصَدَعَتْ. وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُؤْثِرُهُ التَّصْرِيحُ فِي الْقُلُوبِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْوُجُوهِ مِنَ التَّقَبُّضِ وَالِانْبِسَاطِ، وَيَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْشَارِ، كَمَا يَظْهَرُ عَلَى ظَاهِرِ الزُّجَاجَةِ الْمَصْدُوعَةِ، فَانْظُرْ إِلَى جَلِيلِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَعِظَمِ إِيجَازِهَا، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ سَجَدَ وَقَالَ: سَجَدْتُ لِفَصَاحَةِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزُّخْرُف: 71]، قَالَ بَعْضُهُمْ: جُمِعَ بِهَاتَيْنِ اللَّفْظَتَيْنِ مَا لَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى وَصْفِ مَا فِيهَا عَلَى التَّفْصِيلِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [الْبَقَرَة: 179]، فَإِنَّ مَعْنَاهُ كَثِيرٌ وَلَفْظُهُ قَلِيلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى قَتَلَ قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى الْقَتْلِ، فَارْتَفَعَ بِالْقَتْلِ- الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ- كَثِيرٌ مِنْ قَتْلِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَانَ ارْتِفَاعُ الْقَتْلِ حَيَاةً لَهُمْ. وَقَدْ فُضِّلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى أَوْجَزِ مَا كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ بِعِشْرِينَ وَجْهًا أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى إِنْكَارِ هَذَا التَّفْضِيلِ وَقَالَ: لَا تَشْبِيهَ بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ يَقْدَحُونَ أَذْهَانَهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ ذِلَكَ. الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا يُنَاظِرُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْقِصَاصُ حَيَاةٌ} أَقَلُّ حُرُوفًا، فَإِنَّ حُرُوفَهُ عَشْرَةٌ وَحُرُوفُ (الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ) أَرْبَعَةَ عَشَرَ. الثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ الْقَتْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحَيَاةَ، وَالْآيَةُ نَاصَّةٌ عَلَى ثُبُوتِ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ تَنْكِيرَ (حَيَاةٍ) يُفِيدُ تَعْظِيمًا، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً مُتَطَاوِلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [الْبَقَرَة: 96]، وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ، فَإِنَّ اللَّامَ فِيهَا لِلْجِنْسِ؛ وَلِذَا فَسَّرُوا الْحَيَاةَ فِيهَا بِالْبَقَاءِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ فِيهَا مُطَّرِدَةٌ بِخِلَافِ الْمَثَلِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَدْعَى لَهُ، وَهُوَ الْقَتْلُ ظُلْمًا؛ وَإِنَّمَا يَنْفِيهِ قَتْلٌ خَاصٌّ؛ وَهُوَ الْقِصَاصُ، فَفِيهِ حَيَاةٌ أَبَدًا. الْخَامِسُ: أَنَّ الْآيَةَ خَالِيَةٌ مِنْ تَكْرَارِ لِفَظِ الْقَتْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَثَلِ، وَالْخَالِي مِنَ التَّكْرَارِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِالْفَصَاحَةِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِ حَذَفَ (مِنْ) الَّتِي بَعْدَ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَمَا بَعْدَهَا، وَحُذِفَ (قِصَاصًا) مَعَ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ، وَظُلْمًا مَعَ الْقَتْلِ الثَّانِي، وَالتَّقْدِيرُ: الْقَتْلُ قِصَاصًا أَنْفَى لِلْقَتْلِ ظُلْمًا مِنْ تَرْكِهِ. السَّابِعُ: أَنَّ فِي الْآيَةِ طِبَاقًا؛ لِأَنَّ الْقَصَاصَ يُشْعِرُ بِضِدِّ الْحَيَاةِ بِخِلَافِ الْمَثَلِ. الثَّامِنُ: أَنَّ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى فَنٍّ بَدِيعٍ؛ وَهُوَ جَعْلُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ مَحْلًّا وَمَكَانًا لِضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ، وَاسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ فِي الْمَوْتِ مُبَالَغَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهُ فِي الْكَشَّافِ وَعَبَّرَ عَنْهُ صَاحِبُ الْإِيضَاح: بِأَنَّهُ جَعَلَ الْقِصَاصَ كَالْمَنْبَعِ لِلْحَيَاةِ وَالْمَعْدِنِ لَهَا بِإِدْخَالِ (فِي) عَلَيْهِ. التَّاسِعُ: أَنَّ فِي الْمَثَلِ تَوَالِيَ أَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ خَفِيفَةٍ، وَهُوَ السُّكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَكْرَهٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَنْطُوقَ بِهِ إِذَا تَوَالَتْ حَرَكَاتُهُ تَمَكَّنَ اللِّسَانُ مِنَ النُّطْقِ بِهِ، وَظَهَرَتْ بِذَلِكَ فَصَاحَتُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَعَقَّبَ كُلَّ حَرَكَةٍ سُكُونٌ، فَالْحَرَكَاتُ تَنْقَطِعُ بِالسَّكَنَاتِ. نَظِيرُهُ إِذَا تَحَرَّكَتِ الدَّابَّةُ أَدْنَى حَرَكَةٍ فَحُبِسَتْ، ثُمَّ تَحَرَّكَتْ فَحُبِسَتْ، لَا تُطِيقُ إِطْلَاقَهَا، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَرَكَتِهَا عَلَى مَا تَخْتَارُهُ، فَهِيَ كَالْمُقَيَّدَةِ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمَثَلَ كَالْمُتَنَاقِضِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْفِي نَفْسَهُ. الْحَادِي عَشَرَ: سَلَامَةُ الْآيَةِ مِنْ تَكْرِيرِ قَلْقَلَةِ الْقَافِ الْمُوجِبِ لِلضَّغْطِ وَالشِّدَّةِ، وَبُعْدُهَا عَنْ غُنَّةٍ النُّونِ. الثَّانِي عَشَرَ: اشْتِمَالُهَا عَلَى حُرُوفٍ مُتَلَائِمَةٍ، لِمَا فِيهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى الصَّادِ؛ إِذِ الْقَافُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَالصَّادُ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْإِطْبَاقِ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقَافِ إِلَى التَّاءِ الَّتِي هِيَ حَرْفٌ مُنْخَفِضٌ، فَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِلْقَافِ، وَكَذَا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّادِ إِلَى الْحَاءِ أَحْسَنُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ اللَّامِ إِلَى الْهَمْزَةِ، لِبُعْدِ مَا دُونَ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَقْصَى الْحَلْقِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: فِي النُّطْقِ بِالصَّادِ وَالْحَاءِ وَالتَّاءِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَلَا كَذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقَافِ وَالتَّاءِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: سَلَامَتُهَا مَنْ لَفْظِ الْقَتْلِ الْمُشْعِرِ بِالْوَحْشَةِ، بِخِلَافِ لَفْظِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الطِّبَّاعَ أَقْبَلُ لَهُ مَنْ لَفْظِ الْقَتْلِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ لَفْظَ الْقِصَاصِ مُشْعِرٌ بِالْمُسَاوَاةِ، فَهُوَ مُنْبِئٌ عَنِ الْعَدْلِ، بِخِلَافِ مُطْلَقِ الْقَتْلِ. السَّادِسَ عَشَرَ: الْآيَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِثْبَاتِ، وَالْمَثَلُ عَلَى النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتُ أَشْرَفُ لِأَنَّهُ أَوَّلٌ، وَالنَّفْيُ ثَانٍ عَنْهُ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْمَثَلَ لَا يَكَادُ يُفْهَمُ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ أَنَّ الْقِصَاصَ هُوَ الْحَيَاةُ. وَقَوْلُهُ: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مَفْهُومٌ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّ فِي الْمَثَلِ بِنَاءَ (أَفْعَلَ) التَّفْضِيلِ مِنْ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْهُ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنَّ (أَفْعَلَ) فِي الْغَالِبِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْقِصَاصِ نَافِيًا لِلْقَتْلِ، وَلَكِنَّ الْقِصَاصَ أَكْثَرُ نَفْيًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَالْآيَةُ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ. الْعِشْرُونَ: أَنَّ الْآيَةَ رَادِعَةٌ عَنِ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ مَعًا لِشُمُولِ الْقِصَاصِ لَهُمَا، وَالْحَيَاةُ- أَيْضًا- فِي قِصَاصِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ يُنْقِصُ مَصْلَحَةَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ فَيُزِيلُهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمَثَلُ. فِي أَوَّلِ الْآيَة: (وَلَكُمْ)، وَفِيهَا لَطِيفَةٌ؛ وَهِيَ بَيَانُ الْعِنَايَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُ حَيَاتُهُمْ لَا غَيْرُهُمْ، لِتَخْصِيصِهِمْ بِالْمَعْنَى مَعَ وُجُودِهِ فِيمَنْ سِوَاهُمْ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: ذَكَرَ قُدَامَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْإِشَارَةَ، وَفَسَّرَهَا بِالْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ قَلِيلٍ ذِي مَعَانٍ جَمَّةٍ. وَهَذَا هُوَ إِيجَازُ الْقَصْرِ بِعَيْنِهِ، لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ بِأَنَّ الْإِيجَازَ دَلَالَتُهُ مُطَابَقَةٌ، وَدَلَالَةُ الْإِشَارَةِ إِمَّا تَضَمُّنٌ أَوِ الْتِزَامٌ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَبْحَثِ الْمَنْطُوقِ. الثَّانِي: ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ مِنَ الْإِيجَازِ نَوْعًا يُسَمَّى التَّضْمِينُ؛ وَهُوَ حُصُولُ مَعْنًى فِي لَفْظٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لَهُ بِاسْمٍ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ. قَالَ: وَهُوَ نَوْعَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا يُفْهَمُ مِنَ الْبَيِّنَةِ؛ كَقَوْلِه: مَعْلُومٌ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَالِمٍ. وَالثَّانِي: مِنْ مَعْنَى الْعِبَارَةِ كَـ (بَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، فَإِنَّهُ تَضَمَّنَ تَعْلِيمَ الِاسْتِفْتَاحِ فِي الْأُمُورِ بِاسْمِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ. الثَّالِثُ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَصَاحِبُ عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ إِيجَازِ الْقَصْرِ بَابُ الْحَصْرِ؛ سَوَاءً كَانَ بِإِلَّا، أَوْ بِإِنَّمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَدَوَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِيهَا نَابَتْ مَنَابَ جُمْلَتَيْنِ. وَبَابُ الْعَطْفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَهُ وُضِعَ لِلْإِغْنَاءِ عَنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ. وَبَابُ النَّائِبِ عَنِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى الْفَاعِلِ بِإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ، وَعَلَى الْمَفْعُولِ بِوَضْعِهِ. وَبَابُ الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهِ عَنِ الظَّاهِرِ اخْتِصَارًا، وَلِذَا لَا يُعْدَلُ إِلَى الْمُنْفَصِلِ مَعَ إِمْكَانِ الْمُتَّصِلِ. وَبَابُ: عَلِمْتُ أَنَّكَ قَائِمٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِاسْمٍ وَاحِدٍ سَدَّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ. وَمِنْهَا: بَابُ التَّنَازُعِ، إِذَا لَمْ نُقَدِّرْ عَلَى رَأْيِ الْفَرَّاءِ. وَمِنْهَا: جَمْعُ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ، فَإِنَّ (كَمْ مَالُكَ) يُغْنِي عَنْ قَوْلِكَ: أَهْوَ عِشْرُونَ أَمْ ثَلَاثُونَ؟ وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. وَمِنْهَا الْأَلْفَاظُ اللَّازِمَةُ لِلْعُمُومِ كَأَحَدٍ. وَمِنْهَا: لَفْظُ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَإِنَّهُ يُغْنِي عَنْ تَكْرِيرِ الْمُفْرَدِ، وَأُقِيمَ الْحَرْفُ فِيهِمَا مَقَامَهُ اخْتِصَارًا. وَمِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يُعَدَّ مِنْ أَنْوَاعِه: الْمُسَمَّى بِالِاتِّسَاعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ؛ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامٍ يَتَّسِعُ فِيهِ التَّأْوِيلُ بِحَسَبَ مَا تَحْتَمِلُهُ أَلْفَاظُهُ مِنَ الْمَعَانِي، كَفَوَاتِحِ السُّوَرِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ.
وَفِيهِ فَوَائِدُ، ذِكْرُ أَسْبَابِه: مِنْهَا: مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ لِظُهُورِهِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ. وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْذُوفِ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ وَالْإِغْرَاءِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشَّمْس: 13]، فَـ (نَاقَةَ اللَّهِ) تَحْذِيرٌ بِتَقْدِير: (ذَرُوا)، وَ(سُقْيَاهَا) إِغْرَاءٌ بِتَقْدِير: (الْزَمُوا). وَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ. قَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاء: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ، فَيُحْذَفُ، وَيُكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا. قَالَ: وَلِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ عَلَى النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزُّمَر: 73]، فَحُذِفَ الْجَوَابُ؛ إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى، فَجُعِلَ الْحَذْفُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ، وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَاءَتْهُ، وَلَا تَبْلُغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهَ مَا هُنَالِكَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَنْعَام: 27]؛ أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا لَا تَكَادُ تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ. وَمِنْهَا: التَّخْفِيفُ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا فِي حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، نَحْو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يُوسُفَ: 39]، وَنُونِ {لَمْ يَكُ} [الْأَنْفَال: 53]، وَالْجَمْعُ السَّالِمُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الْحَجّ: 35]، وَيَاءُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الْفَجْر: 4]، وَسَأَلَ الْمُؤَرَّجُ السَّدُوسِيُّ الْأَخْفَشَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّهَا إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفُهُ، وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي، وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مَرْيَمَ: 28]، الْأَصْلُ (بَغِيَّةً)، فَلَمَّا حُوِّلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الْأَنْعَام: 73]، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}. وَمِنْهَا: شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1]؛ لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكَرُّرِ الْجَارِّ، فَقَامَتِ الشُّهْرَةُ مَقَامَ الذِّكْرِ. وَمِنْهَا: صِيَانَتُهُ عَنْ ذِكْرِهِ تَشْرِيفًا مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} الْآيَاتِ، حُذِفَ فِيهَا الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ ذِكْرِ الرَّبِّ؛ أَيْ: (هُوَ رَبٌّ)، (اللَّهُ رَبُّكُمْ)، (اللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ)؛ لِأَنَّ مُوسَى اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامَهُ عَلَى السُّؤَالِ، فَأَضْمَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا، وَمِثْلُهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الْأَعْرَاف: 143]؛ أَيْ: ذَاتِكَ. وَمِنْهَا: صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ تَحْقِيرًا لَهُ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {صُمٌّ بُكْمٌ} [الْبَقَرَة: 18]؛ أَيْ: هُمْ أَوِ الْمُنَافِقُونَ. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْعُمُومِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَيْ: عَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يُونُسَ: 25]؛ أَيْ: كَلَّ وَاحِدٍ. وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضُّحَى: 3]؛ أَيْ: وَمَا قَلَاكَ. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} [النَّحْل: 9]؛ أَيْ: فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ السَّامِعُ {وَلَوْ شَاءَ} تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِمُشَاءٍ انْبَهَمَ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا ذُكِرَ الْجَوَابُ اسْتَبَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاةِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْمَشِيئَةِ مَذْكُورٌ فِي جَوَابِهَا. وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهَا اسْتِدْلَالًا بِغَيْرِ الْجَوَابِ، نَحْو: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَة: 255]. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْبَيَانِ أَنَّ مَفْعُولَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يُذْكَرُ إِلَّا إِذَا كَانَ غَرِيبًا أَوْ عَظِيمًا، نَحْو: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِير: 28]، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الْأَنْبِيَاء: 17]، وَإِنَّمَا اطَّرَدَ أَوْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الْمُشَاءِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَشِيئَةَ الْجَوَابِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ مِثْلَهَا فِي اطِّرَادِ مَفْعُولِهَا، ذَكَرَهُ الزَّمْلَكَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ. قَالُوا: وَإِذَا حُذِفَ بَعْدَ (لَوْ) فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي جَوَابِهَا أَبَدًا. وَأَوْرَدَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فُصِّلَتْ: 14]، فَإِنَّ الْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا إِرْسَالَ الرُّسُلِ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ لَأَنَّ الْمَعْنَى مُعِينٌ عَلَى ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ: قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِر: مَا مِنِ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَسَمَّى ابْنُ جِنِّي الْحَذْفَ شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُشَجِّعُ عَلَى الْكَلَامِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: جَرَتْ عَادَةُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا، وَيُرِيدُونَ بِالِاخْتِصَارِ الْحَذْفَ لِدَلِيلٍ، وَيُرِيدُونَ بِالِاقْتِصَارِ الْحَذْفَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُمَثِّلُونَهُ بِنَحْو: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطُّور: 19]؛ أَيْ: أَوْقِعُوا هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ- يَعْنِي كَمَا قَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ-: تَارَةً يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِعْلَامِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ أَوْقَعَهُ، وَمَنْ أُوقِعُ عَلَيْهِ، فَيُجَاءُ بِمَصْدَرِهِ مُسْنَدًا إِلَى فِعْلِ كَوْنٍ عَامٍّ، فَيُقَالُ: حَصَلَ حَرِيقٌ أَوْ نَهْبٌ، وَتَارَةً يَتَعَلَّقُ بِالْإِعْلَامِ بِمُجَرَّدِ إِيقَاعِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُذَكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُنْوَى؛ إِذِ الْمَنْوِيُّ كَالثَّابِتِ، وَلَا يُسَمَّى مَحْذُوفًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنَزَّلُ لِهَذَا الْقَصْدِ مَنْزِلَةَ مَا لَا مَفْعُولَ لَهُ. وَمِنْهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الْبَقَرَة: 258]، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر: 9]، {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَاف: 31]، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الْإِنْسَان: 20]؛ إِذِ الْمَعْنَى: رَبِّيَ الَّذِي يَفْعَلُ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ، وَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ يَتَّصِفُ بِالْعِلْمِ وَمَنْ يَنْتَفِي عَنْهُ الْعِلْمُ، وَأَوْقِعُوا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَذَرُوا الْإِسْرَافَ، وَإِذَا حَصَلَتْ مِنْكَ رُؤْيَةٌ. وَمِنْهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الْآيَةَ [الْقَصَص: 23]، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحِمَهُمَا؛ إِذْ كَانَتَا عَلَى صِفَةِ الذِّيَادِ، وَقَوْمُهُمَا عَلَى السَّقْيِ، لَا لِكَوْنِ مَذُودِهِمَا غَنَمًا وَسَقْيِهِمْ إِبِلًا، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ: {لَا نَسْقِي} السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ. وَمَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ قَدَّرَ (يَسْقُونَ إِبِلَهُمْ)، وَ(تَذُودَانِ غَنَمَهُمَا)، وَ(لَا نَسْقِي غَنَمًا). وَتَارَةً يُقْصَدُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ وَتَعْلِيقُهُ بِمَفْعُولِهِ فَيُذْكَرَانِ، نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الْإِسْرَاء: 32]، وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَحْذُوفُهُ قِيلَ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَا يَسْتَدْعِيهِ فَيَحْصُلُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ تَقْدِيرِهِ، نَحْو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاء: 95]، وَقَدْ يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِي الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ، نَحْو: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الْإِسْرَاء: 110]. قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَعْنَاهُ (نَادُوا)، فَلَا حَذْفَ، أَوْ (سَمُّوا) فَالْحَذْفُ وَاقِعٌ. ذِكْرُ شُرُوطِه: هِيَ ثَمَانِيَةٌ: أَحَدُهَا: وُجُودُ دَلِيلٍ إِمَّا حَالِيٌّ، نَحْو: {قَالُوا سَلَامًا} [هُودٍ: 69]؛ أَيْ: سَلَّمْنَا سَلَامًا. أَوْ مَقَالِيٌّ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ، نَحْو: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النَّحْل: 30]؛ أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا. {قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذَّارِيَات: 25]؛ أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. وَمِنَ الْأَدِلَّة: الْعَقْلُ: حَيْثُ يَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ. ثُمَّ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى تَعْيِينِهِ، بَلْ يُسْتَفَادُ التَّعْيِينُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، نَحْو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَة: 3]، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمُحَرَّمَةَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يُضَافُ إِلَى الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَالْحِلُّ يُضَافَانِ إِلَى الْأَفْعَالِ، فَعُلِمَ بِالْعَقْلَ حَذْفُ شَيْءٍ. وَأَمَّا تَعْيِينُهُ- وَهُوَ التَّنَاوُلُ- فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَتَابَعَ بِهِ السَّكَّاكِيَّ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَتَارَةً يَدُلُّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ، نَحْو: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الْفَجْر: 22]؛ أَيْ: أَمْرُهُ بِمَعْنَى عَذَابِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَجِيءِ الْبَارِئِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الْحَادِثِ، وَعَلَى أَنَّ الْجَائِيَ أَمَرُهُ. {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَة: 1]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النَّحْل: 91]؛ أَيْ: بِمُقْتَضَى الْعُقُودِ، وَبِمُقْتَضَى عَهْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالْعَهْدَ قَوْلَانِ قَدْ دَخَلَا فِي الْوُجُودِ وَانْقَضَيَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا وَفَاءٌ وَلَا نَقْضٌ، وَإِنَّمَا الْوَفَاءُ وَالنَّقْضُ بِمُقْتَضَاهُمَا وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحْكَامِهِمَا. وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ الْعَادَةُ، نَحْو: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يُوسُفَ: 32]، دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى الْحَذْفِ؛ لِأَنَّ يُوسُفَ لَا يَصِحُّ ظَرْفًا لِلَّوْمِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرُ: (لُمْتُنَّنِي فِي حُبِّهِ) لِقَوْلِه: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يُوسُفَ: 30]، وَفِي مُرَاوَدَتِهِمَا لِقَوْلِه: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يُوسُفَ: 30]، وَالْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحُبَّ الْمُفْرِطَ لَا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ اخْتِيَارِيًّا بِخِلَافِ الْمُرَاوَدَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا. وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، نَحْو: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 210]؛ أَيْ: أَمْرُهُ، بِدَلِيل: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النَّحْل: 33]، {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]؛ أَيْ: كَعَرْضِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ. {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} [الْبَيِّنَة: 2]؛ أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِدَلِيل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُ} [الْبَقَرَة: 101] وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ، نَحْو: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 167]؛ أَيْ: مَكَانَ قَتَّالٍ، وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِأَنْ يَتَفَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا: لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَال: فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ (مَكَانَ قِتَالٍ)، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَشَارُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهَا: الشُّرُوعُ فِي الْفِعْلِ، نَحْوُ: (بِسْمِ اللَّهِ)، فَيُقَدَّرُ مَا جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ، فَإِنَّ كَانَتْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ قُدِّرَتْ (أَقْرَأُ)، أَوِ الْأَكْلِ قُدِّرَتْ (آكُلُ)، وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْبَيَانِ قَاطِبَةً خِلَافًا لِقَوْلِ النُّحَاة: إِنَّهُ يُقَدَّرُ: ابْتَدَأْتُ أَوِ ابْتِدَائِي كَائِنٌ (بِسْمِ اللَّهِ)، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي قَوْلِه: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هُودٍ: 41]، وَفِي حَدِيث: «بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي». وَمِنْهَا: الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا أُقْسِمُ} [الْقِيَامَة: 1]، التَّقْدِيرُ: (لَأَنَا أُقْسِمُ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَالِ لَا يُقَسَمُ عَلَيْهِ، وَفِي: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} [يُوسُفَ: 85]، التَّقْدِيرُ: لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ مُثَبَّتًا دَخَلْتِ اللَّامُ وَالنُّونُ كَقَوْلِه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الْأَنْبِيَاء: 57]، وَقَدْ تُوجِبُ الصِّنَاعَةُ التَّقْدِيرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19]: إِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: مَوْجُودٌ. وَقَدْ أَنْكَرُهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَتَقْدِيرُ النُّحَاةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً، فَإِنَّهَا إِذَا انْتَفَتْ مُطْلَقَةً كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْقَيْدِ، وَإِذَا انْتَفَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ. وَرُدَّ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُمْ (مَوْجُودٌ) يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ كُلِّ إِلَهٍ غَيْرَ اللَّهِ قَطْعًا، فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا كَلَامَ فِيهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ لِلْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرٍ، لِاسْتِحَالَةِ مُبْتَدَأٍ بِلَا خَبَرٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ لِيُعْطِيَ الْقَوَاعِدَ حَقَّهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُوُمًا.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا أَوْ أَحَدَ رُكْنَيْهَا، أَوْ يُفِيدُ مَعْنًى فِيهَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ، نَحْو: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} [يُوسُفَ: 85]، أَمَّا الْفَضْلَةُ فَلَا يُشْتَرَطُ لِحَذْفِهَا وُجْدَانُ دَلِيلٍ، بَلْ يُشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي حَذْفِهَا ضَرَرٌ مَعْنَوِيٌّ أَوْ صِنَاعِيٌّ. قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَكُونَ طِبْقَ الْمَحْذُوفِ. وَرُدَّ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ} [الْقِيَامَة: 3- 4]: إِنَّ التَّقْدِيرَ: (بَلْ لَيَحْسَبُنَا قَادِرِينَ)؛ لِأَنَّ الْحُسْبَانَ الْمَذْكُورَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالْمُقَدَّرَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِي الْإِعَادَةِ كُفْرٌ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. قَالَ: وَالصَّوَابُ فِيهَا قَوْلُ سِيبَوَيْه: إِنَّ: {قَادِرِينَ} حَالٌ؛ أَيْ: بَلْ نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْ فِعْلِ الْحُسْبَانِ، وَلِأَنَّ (بَلَى) لِإِيجَابِ الْمَنْفِيِّ، وَهُوَ فِيهَا فِعْلُ الْجَمْعِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْذُوفُ كَالْجُزْءِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُحْذَفِ الْفَاعِلُ وَلَا نَائِبُهُ، وَلَا اسْمُ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الْجُمْعَة: 5]: إِنَّ تَقْدِيرَ (بِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُ الْقَوْمِ)، فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لَفْظُ الْمَثَلِ مَحْذُوفًا فَمَرْدُودٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ فِي بِئْسَ ضَمِيرُ الْمَثَلِ مُسْتَتِرًا فَسَهْلٌ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَكَّدًا؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ مُنَافٍ لِلتَّأْكِيدِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِذِ الْحَذْفُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَالتَّأْكِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى الطُّولِ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى الزَّجَاجِ فِي قَوْلِهِ فِي: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طَه: 63]: إِنَّ التَّقْدِيرَ: (إِنْ هَذَانَ لَهُمَا سَاحِرَانِ)، فَقَالَ: الْحَذْفُ وَالتَّوْكِيدُ بِاللَّامِ مُتَنَافِيَانِ، وَأَمَّا حَذْفُ الشَّيْءِ لِدَلِيلٍ وَتَوْكِيدُهُ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ لِدَلِيلٍ كَالثَّابِتِ. الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُؤَدِّي حَذْفُهُ إِلَى اخْتِصَارِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُحْذَفُ اسْمُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ اخْتِصَارٌ لِلْفِعْلِ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَامِلًا ضَعِيفًا، فَلَا يُحْذَفُ الْجَارُّ، وَالنَّاصِبُ لِلْفِعْلِ وَالْجَازِمُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ قَوِيَتْ فِيهَا الدَّلَالَةُ، وَكَثُرَ فِيهَا اسْتِعْمَالُ تِلْكَ الْعَوَامِلِ. السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْذُوفُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لَيْسَ عِوَضًا عَنْ (أَدْعُو) لِإِجَازَةِ الْعَرَبِ حَذْفَهُ؛ وَلِذَا أَيْضًا لَمْ تُحْذَفِ التَّاءُ مِنْ إِقَامَةٍ وَاسْتِقَامَةٍ. وَأَمَّا: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الْأَنْبِيَاء: 73]، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا خَبَرَ كَانَ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أَوْ كَالْعِوَضِ مِنْ مَصْدَرِهَا. السَّابِعُ: أَنْ لَا يُؤَدِّي حَذْفُهُ إِلَى تَهْيِئَةِ الْعَامِلِ الْقَوِيِّ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُقَسْ عَلَى قِرَاءَة: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الْحَدِيد: 10]، فَائِدَةٌ: اعْتَبَرَ الْأَخْفَشُ فِي الْحَذْفِ التَّدْرِيجَ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [الْبَقَرَة: 48]: إِنَّ الْأَصْلَ (لَا تَجْزِي فِيهِ)، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ (تَجْزِيهِ)، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ فَصَارَ (تَجْزِي)، وَهَذِهِ مُلَاطَفَةٌ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا حُذِفَا مَعًا، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْفَقُ فِي النَّفْسِ، وَآنَسُ مِنْ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفَانِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
الْأَصْلُ أَنْ يُقَدَّرَ الشَّيْءُ فِي مَكَانِهِ الْأَصْلِيِّ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْأَصْلَ مِنْ وَجْهَيْن: الْحَذْفُ وَوَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَيُقَدِّرُ الْمُفَسِّرُ فِي، نَحْو: (زَيْدًا رَأَيْتُهُ) مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَجَوَّزَ الْبَيَانِيُّونَ تَقْدِيرُهُ مُؤَخَّرًا عَنْهُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ كَمَا قَالَهُ النُّحَاةُ، وَإِذَا مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ، نَحْوَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فُصِّلَتْ: 17]، إِذْ لَا يَلِي أَمَّا فِعْلٌ.
يَنْبَغِي تَقْلِيلُ الْمُقَدَّرِ مَهْمَا أَمْكَنَ لِتَقِلَّ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ، وَمِنْ ثَمَّ ضَعُفَ قَوْلُ الْفَارِسِيِّ فِي: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطَّلَاق: 4]، إِنَّ التَّقْدِيرَ: فَعِدَتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ كَذَلِكَ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّين: وَلَا يُقَدَّرُ مِنَ الْمَحْذُوفَاتِ إِلَّا أَشَدُّهَا مُوَافَقَةً لِلْغَرَضِ وَأَفْصَحُهَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يُقَدِّرُونَ إِلَّا مَا لَوْ لَفَظُوا بِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَنْسَبَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ، كَمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْمَلْفُوظِ بِهِ، نَحْو: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [الْمَائِدَة: 97]. قَدَّرَ أَبُو عَلِيٍّ: (جَعَلَ اللَّهُ نُصُبَ الْكَعْبَةِ. وَقَدَّرَ غَيْرُهُ: (حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْحُرْمَةِ فِي الْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ لَا شَكَّ فِي فَصَاحَتِهِ، وَتَقْدِيرُ النُّصُبِ فِيهَا بَعِيدٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ. قَالَ: وَمَهْمَا تَرَدَّدَ الْمَحْذُوفُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ، وَجَبَ تَقْدِيرُ الْأَحْسَنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ كِتَابَهُ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، فَلْيَكُنْ مَحْذُوفُهُ أَحْسَنَ الْمَحْذُوفَاتِ، كَمَا أَنَّ مَلْفُوظَهُ أَحْسَنُ الْمَلْفُوظَاتِ. وَمَتَى تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا أَوْ مُبَيِّنًا، فَتَقْدِيرُ الْمُبَيِّنِ أَحْسَنُ، نَحْو: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الْأَنْبِيَاء: 78]، لَكَ أَنْ تُقَدِّرَ: (فِي أَمْرِ الْحَرْثِ). وَ(فِي تَضْمِينِ الْحَرْثِ)، وَهُوَ أَوْلَى لِتَعَيُّنِهِ، وَالْأَمْرُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ.
إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحْذُوفِ فِعْلًا وَالْبَاقِي فَاعِلًا، وَكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَالْبَاقِي خَبَرًا، فَالثَّانِي أَوْلَى; لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ عَيْنُ الْخَبَرِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمَحْذُوفُ عَيْنُ الثَّابِتِ، فَيَكُونُ حَذْفًا كَلَا حَذْفٍ، فَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ غَيْرُ الْفَاعِلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْتَضِدَ الْأَوَّلُ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، أَوْ بِمَوْضِعٍ آخَرَ يُشْبِهُهُ. فَالْأَوَّلُ كَقِرَاءَة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النُّور: 36] بِفَتْحِ الْبَاءِ. {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} [الشُّورَى: 3] بِفَتْحِ الْحَاءِ، فَإِنَّ التَّقْدِيرَ: (يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ)، وَ(يُوحِيهِ اللَّهُ)، وَلَا يُقَدَّرَانِ مُبْتَدَأَيْنِ حُذِفَ خَبَرُهُمَا لِثُبُوتِ فَاعِلِيَّةِ الِاسْمَيْنِ فِي رِوَايَةِ مَنْ بَنَى الْفِعْلَ لِلْفَاعِلِ. وَالثَّانِي: نَحْو: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُف: 87]، فَتَقْدِيرُ: (خَلَقَهُمُ اللَّهُ) أَوْلَى مِنَ (اللَّهُ خَلَقَهُمْ) لِمَجِيءِ {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزُّخْرُف: 9].
إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحْذُوفِ أَوَّلًا أَوْ ثَانِيًا فَكَوْنُهُ ثَانِيًا أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ رُجِّحَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ فِي، نَحْو: {أَتُحَاجُّونِّي} [الْأَنْعَام: 80] نُونُ الْوِقَايَةِ لَا نُونُ الرَّفْعِ، وَفِي: {نَارًا تَلَظَّى} [اللَّيْل: 14] التَّاءُ الثَّانِيَةُ لَا تَاءُ الْمُضَارَعَةِ، وَفِي: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التَّوْبَة: 62]، أَنَّ الْمَحْذُوفَ خَبَرُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَفِي، نَحْو: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [الْبَقَرَة: 197]، أَنَّ الْمَحْذُوفَ مُضَافٌ لِلثَّانِي؛ أَيْ: حَجُّ أَشْهُرٍ، لَا الْأَوَّلِ؛ أَيْ: أَشْهُرُ الْحَجِّ. وَقَدْ يَجِبُ كَوْنُهُ مِنَ الْأَوَّلِ، نَحْو: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الْأَحْزَاب: 56]، قِرَاءَةُ مَنْ رَفَعَ (وَمَلَائِكَتُهُ) لِاخْتِصَاصِ الْخَبَرِ بِالثَّانِي لِوُرُودِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَدْ يَجِبُ كَوْنُهُ مِنَ الثَّانِي، نَحْو: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التَّوْبَة: 3]؛ أَيْ: بَرِيءٌ أَيْضًا لِتَقَدُّمِ الْخَبَرِ عَلَى الثَّانِي.
الْحَذْفُ عَلَى أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: مَا يُسَمَّى بِالِاقْتِطَاعِ؛ وَهُوَ حَذْفُ بَعْضِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَذْفِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ وُرُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَرُدَّ: بِأَنَّ بَعْضَهُمْ جَعَلَ مِنْهُ فَوَاتِحَ السُّوَرِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا مِنِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبَاءَ فِي: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [الْمَائِدَة: 6]، أَوَّلُ كَلِمَةِ بَعْضٍ، ثُمَّ حُذِفَ الْبَاقِي، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ بَعْضِهِ (وَنَادَوْا يَا مَالِ) بِالتَّرْخِيمِ، وَلَمَّا سَمِعَهَا بَعْضُ السَّلَفِ قَالَ: مَا أَغْنَى أَهْلَ النَّارِ عَنِ التَّرْخِيمِ! وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ عَجَزُوا عَنْ إِتْمَامِ الْكَلِمَةِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ حَذْفُ هَمْزَةِ (أَنَا) فِي قَوْلِه: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الْكَهْف: 38]؛ إِذِ الْأَصْلُ (لَكِنَّ أَنَا) حُذِفَتْ هَمْزَةُ (أَنَا) تَخْفِيفًا، وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي النُّونِ. وَمِثْلُهُ مَا قُرِئَ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الْحَجّ: 65]، {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الْبَقَرَة: 4]، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 203]، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [الْمُدَّثِّر: 35]. النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُسَمَّى بِالِاكْتِفَاءِ؛ وَهُوَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمَقَامُ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ وَارْتِبَاطٌ، فَيُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِنُكْتَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَذْفِ. وَيَخْتَصُّ غَالِبًا بِالِارْتِبَاطِ الْعَطْفِيِّ كَقَوْلِه: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النَّحْل: 81]؛ أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَخُصِّصَ الْحَرُّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ، وَبِلَادُهُمْ حَارَةٌ، وَالْوِقَايَةُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرِّ أَهَمُّ؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ عِنْدَهُمْ مِنَ الْبَرْدِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْبَرْدَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الِامْتِنَانِ بِوِقَايَتِهِ صَرِيحًا فِي قَوْلِه: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النَّحْل: 80]، وَفِي قَوْلِه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النَّحْل: 81]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النَّحْل: 5]. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْع: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]؛ أَيْ: وَالشَّرُّ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الْخَيْرَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبُ الْعِبَادِ وَمَرْغُوبُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وُجُودًا فِي الْعَالَمِ، أَوْ لِأَنَّ إِضَافَةَ الشَّرِّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ بَابِ الْآدَابِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ». وَمِنْهَا: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الْأَنْعَام: 13]؛ أَيْ: وَمَا تَحَرَّكَ، وَخَصَّ السُّكُونَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ الْحَالَيْنِ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ يَصِيرُ إِلَى السُّكُونِ. وَمِنْهَا: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [الْبَقَرَة: 3]؛ أَيْ: وَالشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَاجِبٌ، وَآثَرَ الْغَيْبَ لِأَنَّهُ أَمْدَحُ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِالشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ. وَمِنْهَا: {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصَّافَّات: 5]؛ أَيْ: وَالْمَغَارِبِ. وَمِنْهَا: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 2]؛ أَيْ: وَلِلْكَافِرِينَ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ فِي قَوْلِه: {هُدًى لِلنَّاسِ} [الْبَقَرَة: 185]. وَمِنْهَا: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النِّسَاء: 176]؛ أَيْ: وَلَا وَالِدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُهَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يُسَمَّى بِالِاحْتِبَاك: وَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْأَنْوَاعِ وَأَبْدَعِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَذْفِ وَقَلَّ مَنْ تَنَبَّهَ لَهُ أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ فَنِّ الْبَلَاغَةِ، وَلَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي شَرْحِ بَدِيعِيَّةِ الْأَعْمَى لِرَفِيقِهِ الْأَنْدَلُسِيِّ، وَذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ، وَلَمْ يُسَمِّهِ هَذَا الِاسْمَ، بَلْ سَمَّاهُ الْحَذْفَ الْمُقَابَلِيَّ. وَأَفْرَدَهُ بِالتَّصْنِيفِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ. قَالَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي شَرْحِ الْبَدِيعِيَّة: مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الِاحْتِبَاكُ؛ وَهُوَ نَوْعٌ عَزِيزٌ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ مَا أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الثَّانِي، وَمِنَ الثَّانِي مَا أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 171]. التَّقْدِيرُ: وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُفَّارِ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ وَالَّذِي يَنْعَقُ بِهِ، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ الْأَنْبِيَاءَ لِدَلَالَةِ {الَّذِي يَنْعِقُ} عَلَيْهِ، وَمِنَ الثَّانِي الَّذِي يَنْعِقُ بِهِ لِدَلَالَةِ {الَّذِينَ كَفَرُوا} عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النَّمْل: 12]، التَّقْدِيرُ: (تَدُخُلُ غَيْرَ بَيْضَاءَ)، (وَأَخْرِجْهَا تَخْرُجُ بَيْضَاءَ)، فَحَذَفَ مِنَ الْأَوَّلِ (غَيْرَ بَيْضَاءَ)، وَمِنَ الثَّانِي (وَأَخْرِجْهَا). وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْكَلَامِ مُتَقَابِلَانِ، فَيُحْذَفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلُهُ لِدَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هُودٍ: 35]، التَّقْدِيرُ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنْتُمْ بُرَآءُ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ إِجْرَامُكُمْ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ. وَقَوْلُهُ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الْأَحْزَاب: 24]، التَّقْدِيرُ: وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ فَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يُعَذِّبُهُمِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [الْبَقَرَة: 222]؛ أَيْ: حَتَّى يَطْهُرْنَ مِنَ الدَّمِ وَيَتَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ، فَإِذَا طَهُرْنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ. وَقَوْلُهُ: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَة: 102]؛ أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا بِسَيِّئٍ، وَآخَرَ سَيِّئًا بِصَالِحٍ. قُلْتُ: وَمِنْ لَطِيفِهِ قَوْلُهُ: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 13]؛ أَيْ: فِئَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ تَقَاتُلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ. وَفِي الْغَرَائِبِ لِلْكِرْمَانِيّ: فِي الْآيَةِ الْأُولَى التَّقْدِيرُ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا مُحَمَّدُ كَمَثَلِ النَّاعِقِ مَعَ الْغَنَمِ، فَحُذِفَ مَنْ كُلِّ طَرَفٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الطَّرَفُ الْآخَرُ، وَلَهُ فِي الْقُرْآنِ نَظَائِرُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ. انْتَهَى. وَمَأْخَذُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْحَبْكِ الَّذِي مَعْنَاهُ: الشَّدُّ وَالْإِحْكَامُ وَتَحْسِينُ أَثَرِ الصَّنْعَةِ فِي الثَّوْبِ، فَحَبْكُ الثَّوْب: سَدُّ مَا بَيْنَ خُيُوطِهِ مِنَ الْفُرَجِ، وَشَدُّهُ وَإِحْكَامُهُ، بِحَيْثُ يَمْنَعُ عَنْهُ الْخَلَلَ مَعَ الْحُسْنِ وَالرَّوْنَقِ. وَبَيَانُ أَخْذِهِ مِنْهُ: أَنَّ مَوَاضِعَ الْحَذْفِ مِنَ الْكَلَامِ شُبِّهَتْ بِالْفُرَجِ بَيْنَ الْخُيُوطِ، فَلَمَّا أَدْرَكَهَا النَّاقِدُ الْبَصِيرُ بِصَوْغِهِ الْمَاهِرِ فِي نَظْمِهِ وَحَوْكِهِ، فَوَضَعَ الْمَحْذُوفَ مَوَاضِعَهُ، كَانَ حَابِكًا لَهُ، مَانِعًا مِنْ خَلَلٍ يَطْرُقُهُ، فَسَدَّ بِتَقْدِيرِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَلُ مَعَ مَا أَكْسَبَهُ مِنَ الْحُسْنِ وَالرَّوْنَقِ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: مَا يُسَمَّى بِالِاخْتِزَال: هُوَ مَا لَيْسَ وَاحِدًا مِمَّا سَبَقَ، وَهُوَ أَقْسَامٌ، مِنْ أَنْوَاعِ الْحَذْفِ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ إِمَّا كَلِمَةٌ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ أَوْ أَكْثَرُ. أَمْثِلَةُ حَذْفِ الِاسْم: حَذْفُ الْمُضَاف: وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، حَتَّى قَالَ ابْنُ جِنِّي: فِي الْقُرْآنِ مِنْهُ زُهَاءَ أَلْفِ مَوْضِعٍ، وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِهِ الْمَجَازُ عَلَى تَرْتِيبِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ. وَمِنْهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [الْبَقَرَة: 197]؛ أَيْ: حَجُّ أَشْهُرٍ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ. {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} [الْبَقَرَة: 177]؛ أَيْ: ذَا الْبَرِّ، أَوْ بِرُّ مَنْ. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاء: 23]؛ أَيْ: نِكَاحُ أُمَّهَاتِكُمْ. {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الْإِسْرَاء: 75]؛ أَيْ: ضِعفَ عَذَابِ. {وَفِي الرِّقَابِ} [الْبَقَرَة: 177]؛ أَيْ: وَفِي تَحْرِيرِ الرِّقَابِ. حَذْفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ يَكْثُرُ فِي يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، نَحْو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الْأَعْرَاف: 151]، وَفِي الْغَايَاتِ، نَحْو: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}؛ أَيْ: مِنْ قَبْلِ الْغَلَبِ وَمِنْ بَعْدِهِ. وَفِي كُلٍّ، وَأَيٍّ، وَبَعْضٍ، وَجَاءَ فِي غَيْرِهِنَّ كَقِرَاءَةِ (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهُمُ) [الْبَقَرَة: 38] بِضَمٍّ بِلَا تَنْوِينٍ؛ أَيْ: فَلَا خَوْفَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ. حَذْفُ الْمُبْتَدَإ: يَكْثُرُ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ} [الْقَارِعَة: 10، 11]؛ أَيْ: هِيَ نَارٌ. وَبَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ، نَحْو: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} أَيْ: فَعَمِلَهُ لِنَفْسِهِ. {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الْجَاثِيَة: 15]؛ أَيْ: فَإِسَاءَتُهُ عَلَيْهَا. وَبَعْدَ الْقَوْلِ، نَحْو: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الْفُرْقَان: 5]، {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [يُوسُفَ: 44]، وَبَعْدَ مَا الْخَبَرُ صِفَةٌ لَهُ فِي الْمَعْنَى، نَحْو: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التَّوْبَة: 112]، وَنَحْو: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [الْبَقَرَة: 18]. وَوَقَعَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، نَحْو: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 196، 197]، {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ} [الْأَحْقَاف: 35]؛ أَيْ: هَذَا. {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النُّور: 1]؛ أَيْ: هَذِهِ. وَوَجَبَ فِي النَّعْتِ الْمَقْطُوعِ إِلَى الرَّفْعِ حَذْفُ الْخَبَرِ، نَحْو: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرَّعْد: 35]؛ أَيْ: دَائِمٌ، وَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يُوسُفَ: 18]؛ أَيْ: أَجْمَلُ، أَوْ فَأَمْرِي صَبْرٌ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّسَاء: 92]؛ أَيْ: عَلَيْهِ، أَوْ: فَالْوَاجِبُ. حَذْفُ الْمَوْصُوف: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصَّافَّات: 48]؛ أَيْ: حُورٌ قَاصِرَاتٌ. {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سَبَإٍ: 11]؛ أَيْ: دُرُوعًا سَابِغَاتٍ. {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّور: 31]؛ أَي: الِقَوْمُ الِمُؤِمِنُونَ. حَذْفُ الصِّفَة: نَحْو: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} [الْكَهْف: 79]؛ أَيْ: صَالِحَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قُرِئَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ تَعْيِيبَهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا سَفِينَةً. {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [الْبَقَرَة: 71]؛ أَي: الِوَاضِحِ، وَإِلَّا لَكَفَرُوا بِمَفْهُومِ ذَلِكَ. {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الْكَهْف: 105]؛ أَيْ: نَافِعًا. حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْه: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشُّعَرَاء: 63]؛ أَيْ: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ. وَحَيْثُ دَخَلَتْ وَاوُ الْعَطْفِ عَلَى لَامِ التَّعْلِيلِ فَفِي تَخْرِيجِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ كَقَوْلِه: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الْأَنْفَال: 17]، فَالْمَعْنَى: وَلِلْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ أُخْرَى مُضْمَرَةٍ لِتَظْهَرَ صِحَّةُ الْعَطْفِ؛ أَيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيُذِيقَ الْكَافِرِينَ بَأْسَهُ وَلِيُبْلِيَ. حَذْفُ الْمَعْطُوفِ مَعَ الْعَاطِف: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الْحَدِيد: 10]؛ أَيْ: وَمَنْ أَنْفَقَ بَعْدَهُ {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]؛ أَيْ: وَالشَّرُ. حَذْفُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ: خَرَّجَ عَلَيْه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النَّحْل: 116]؛ أَيْ: لِمَا تَصِفُهُ وَ(الْكَذِبَ) بَدَلٌ مِنَ الْهَاءِ. حَذْفُ الْفَاعِل: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي فَاعِلِ الْمَصْدَرِ، نَحْو: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فُصِّلَتْ: 49]؛ أَيْ: دُعَائِهِ الْخَيْرَ. وَجَوَّزَهُ الْكِسَائِيُّ مُطْلَقًا لِدَلِيلٍ، وَخَرَّجَ عَلَيْه: {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [الْقِيَامَة: 26]؛ أَي: الرُّوحُ.} حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]؛ أَيْ: الشَّمْسُ. حَذْفُ الْمَفْعُول: تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَيَرِدُ فِي غَيْرِهِمَا، نَحْو: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الْأَعْرَاف: 152]؛ أَيْ: إِلَهًا. {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التَّكَاثُر: 3]؛ أَيْ: عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ. حَذْفُ الْحَال: يَكْثُرُ إِذَا كَانَ قَوْلًا، نَحْو: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ} [الرَّعْد: 23، 24]؛ أَيْ: قَائِلِينَ. حَذْفُ الْمُنَادَى: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النَّمْل: 25]؛ أَيْ: يَا هَؤُلَاءِ. {يَا لَيْتَ} [الْقَصَص: 79]؛ أَيْ: يَا قَوْمِ. حَذْفُ الْعَائِد: يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَبْوَابٍ: الصِّلَةُ: نَحْو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]؛ أَيْ: بَعَثَهُ. وَالصِّفَةُ: نَحْو: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} [الْبَقَرَة: 48]؛ أَيْ: فِيهِ. وَالْخَبَرُ: نَحْو: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاء: 95]؛ أَيْ: وَعَدَهُ. وَالْحَالُ: حَذْفُ مَخْصُوصِ نِعْمَ: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44]؛ أَيْ: أَيُّوبُ. {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [الْمُرْسَلَات: 33]؛ أَيْ: نَحْنُ. {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النَّحْل: 33]؛ أَيْ: الْجَنَّةُ. حَذْفُ الْمَوْصُول: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الْعَنْكَبُوت: 46]؛ أَيْ: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا لَيْسَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا؛ وَلِهَذَا أُعِيدَتْ (مَا) فِي قَوْلِه: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [الْبَقَرَة: 136]. أَمْثِلَةُ حَذْفِ الْفِعْل: يَطَّرِدُ إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا، نَحْو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التَّوْبَة: 6]، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الِانْشِقَاق: 1]، {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} [الْإِسْرَاء: 100]، وَيَكْثُرُ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْو: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النَّحْل: 30]؛ أَيْ: أَنْزَلَ. وَأَكْثَرُ مِنْهُ حَذْفُ الْقَوْلِ، نَحْو: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [الْبَقَرَة: 127]؛ أَيْ: يَقُولَانِ رَبَّنَا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حَذْفُ الْقَوْلِ مِنْ حَدِيثِ الْبَشَرِ قُلْ وَلَا حَرَجَ. وَيَأْتِي مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، نَحْو: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النِّسَاء: 171]؛ أَيْ: وَأْتُوا. {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الْحَشْر: 9]؛ أَيْ: وَأَلِفُوا الْإِيمَانَ أَوِ اعْتَقَدُوا. {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الْبَقَرَة: 35]؛ أَيْ: وَلْيَسْكُنْ زَوْجُكَ. {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [الْمَسَد: 4]؛ أَيْ: أَذُمُّ. {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} [النِّسَاء: 162]؛ أَيْ: أَمْدَحُ. {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الْأَحْزَاب: 40]؛ أَيْ: كَانَ. {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} [هُودٍ: 111]؛ أَيْ: يُوَفَّوْا أَعْمَالَهُمْ. أَمْثِلَةُ حَذْفِ الْحَرْف: قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْمُحْتَسَبِ: أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَذْفُ الْحَرْفِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ إِنَّمَا دَخَلَتِ الْكَلَامَ لِضَرْبٍ مِنَ الِاخْتِصَارِ، فَلَوْ ذَهَبْتَ تَحْذِفُهَا لَكُنْتَ مُخْتَصِرًا لَهَا هِيَ أَيْضًا، وَاخْتِصَارُ الْمُخْتَصَرِ إِجْحَافٌ بِهِ. حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام: قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [الْبَقَرَة: 6]، وَخَرَّجَ عَلَيْه: {هَذَا رَبِّي} [الْأَنْعَام: 76- 78]، فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ. {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} [الشُّعَرَاء: 22]؛ أَيْ: أَوَتِلْكَ؟ حَذْفُ الْمَوْصُولِ الْحَرْفَيّ: قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي (أَنْ)، نَحْو: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الرُّوم: 24]، وَحَذْفُ الْجَارِ يَطِّرُدُ مَعَ (أَنْ) وَ(أَنَّ)، نَحْو: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ} [الْحُجُرَات: 17]، {أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} [الشُّعَرَاء: 82]، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 35]؛ أَيْ: بِأَنَّكُمْ. وَجَاءَ مَعَ غَيْرِهِمَا، نَحْو: {قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]؛ أَيْ: قَدَّرْنَاهُ لَهُ. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الْأَعْرَاف: 45]؛ أَيْ: لَهَا {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 175]؛ أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ. {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الْأَعْرَاف: 155]؛ أَيْ: مِنْ قَوْمِهِ. {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [الْبَقَرَة: 235]؛ أَيْ: عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ. حَذْفُ الْعَاطِف: خَرَّجَ عَلَيْهِ الْفَارِسِيُّ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} [التَّوْبَة: 92]؛ أَيْ: وَقُلْتَ. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الْغَاشِيَة: 8]؛ أَيْ: وَوُجُوهٌ عَطْفًا عَلَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الْغَاشِيَة: 2]. حَذْفُ فَاءِ الْجَوَاب: وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْأَخْفَشُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [الْبَقَرَة: 180]. حَذْفُ حَرْفِ النِّدَاءِ كَثِيرٌ: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ} [آلِ عِمْرَانَ: 119]، {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يُوسُفَ: 29]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مَرْيَمَ: 4]، {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْأَنْعَام: 14]، وَفِي الْعَجَائِبِ لِلْكَرْمَانِيّ: كَثُرَ حَذْفُ يَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرَّبِّ تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا؛ لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ طَرَفًا مِنَ الْأَمْرِ. حَذْفُ (قَدْ) فِي الْمَاضِي إِذَا وَقَعَ حَالًا،، نَحْو: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النِّسَاء: 90]، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشُّعَرَاء: 111]. حَذْفُ (لَا) النَّافِيَة: يَطَّرِدُ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ الْمَنْفِيُّ مُضَارِعًا، نَحْو: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [يُوسُفَ: 85]، وَوَرَدَ فِي غَيْرِهِ، نَحْو: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [الْبَقَرَة: 184]؛ أَيْ: لَا يُطِيقُونَهُ. {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النَّحْل: 15]؛ أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ. حَذْفُ لَامِ التَّوْطِئَة: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [الْمَائِدَة: 73]، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الْأَنْعَام: 121]. حَذْفُ لَامِ الْأَمْر: خَرَّجَ عَلَيْهِ {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا} [إِبْرَاهِيمَ: 31]؛ أَيْ: لِيُقِيمُوا. حَذْفُ لَامِ (لَقَدْ): يَحْسُنُ مَعَ طُولِ الْكَلَامِ، نَحْو: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشَّمْس: 9]. حَذْفُ نُونِ التَّوْكِيد: خَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ: (أَلَمْ نَشْرَحْ) بِالنَّصْبِ. حَذْفُ التَّنْوِين: خَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) [الْإِخْلَاص: 1]، (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) بِالنَّصْبِ. حَذْفُ نُونِ الْجَمْع: خَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ) حَذْفُ حَرَكَةِ الْإِعْرَابِ وَالْبِنَاء: خَرَّجَ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}، وَ{يَأْمُرُكُمْ} [الْبَقَرَة: 67]، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} [الْبَقَرَة: 228] بِسُكُونِ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [الْبَقَرَة: 237]، {فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [الْمَائِدَة: 31]، {مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [الْبَقَرَة: 278]. أَمْثِلَةُ حَذْفِ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَةٍ: حَذْفُ مُضَافَيْن: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الْحَجّ: 32]؛ أَيْ: فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ أَفْعَالِ ذَوِي تَقْوَى الْقُلُوبِ. {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طَه: 96]؛ أَيْ: مِنْ أَثَرِ حَافِرِ فَرَسِ الرَّسُولِ. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الْأَحْزَاب: 19]؛ أَيْ: كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الْوَاقِعَة: 82]؛ أَيْ: بَدَلَ شُكْرِ رِزْقِكُمْ. حَذْفُ ثَلَاثَةِ مُتَضَايِفَاتٍ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [النَّجْم: 9]؛ أَيْ: فَكَانَ مِقْدَارُ مَسَافَةِ قُرْبِهِ مِثْلَ قَابِ قَوْسَيْنِ، فَحُذِفَ ثَلَاثَةٌ مِنِ اسْمِ (كَانَ) وَوَاحِدٌ مِنْ خَبَرِهَا. حَذْفُ مَفْعُولَيْ بَابِ ظَنَّ: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الْقَصَص: 62]؛ أَيْ: تَزْعُمُونَهُمْ شُرَكَائِي. حَذْفُ الْجَارِ مَعَ الْمَجْرُور: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} أَيْ: بِسَيِّئٍ. {وَآخَرَ سَيِّئًا} [التَّوْبَة: 102]، أَيْ: بِصَالِحٍ. حَذْفُ الْعَاطِفِ مَعَ الْمَعْطُوف: تَقَدَّمَ. حَذْفُ حَرْفِ الشَّرْطِ وَفِعْلِه: يَطَّرِدُ بَعْدَ الطَّلَبِ، نَحْو: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 31]؛ أَيْ: إِنِ اتَّبَعْتُمُونِي. {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إِبْرَاهِيمَ: 31]؛ أَيْ: إِنْ قُلْتُ لَهُمْ يُقِيمُوا. وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [الْبَقَرَة: 80]؛ أَيْ: إِنِ اتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ، وَجَعَلَ مِنْهُ أَبُو حَيَّانَ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [الْبَقَرَة: 91]؛ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ. حَذْفُ جَوَابِ الشَّرْط: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} [الْأَنْعَام: 35]؛ أَيْ: فَافْعَلْ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45]؛ أَيْ: أَعْرَضُوا بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19]؛ أَيْ: لَتَطَيَّرْتُمْ. {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الْكَهْف: 109]؛ أَيْ: لَنَفَدَ. {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السَّجْدَة: 12]؛ أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا. {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النُّور: 20]؛ أَيْ: لَعَذَّبَكُمْ. {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [الْقَصَص: 10]؛ أَيْ: لَأَبْدَتْ بِهِ. {لَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الْفَتْح: 25]؛ أَيْ: لَسَلَّطَكُمْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. حَذْفُ جُمْلَةِ الْقَسَم: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النَّمْل: 21]؛ أَيْ: وَاللَّهِ. حَذْفُ جَوَابِه: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النَّازِعَات: 1]، الْآيَاتِ؛ أَيْ: لَتُبْعَثُنَّ. {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]؛ أَيْ: إِنَّهُ لِمُعْجِزٌ. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]؛ أَيْ: مَا الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا. حَذْفُ جُمْلَةٍ مُسَبَّبَةٍ عَنِ الْمَذْكُورِ، نَحْو: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الْأَنْفَال: 8]؛ أَيْ: فَعَلَ مَا فَعَلَ. حَذْفُ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ، نَحْو: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يُوسُفَ: 45، 46]؛ أَيْ: فَأَرْسَلُونِي إِلَى يُوسُفَ لِأَسْتَعْبِرَهُ الرُّؤْيَا فَفَعَلُوا، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ.
تَارَةً لَا يُقَامُ شَيْءٌ مُقَامَ الْمَحْذُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَارَةً يُقَامُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، نَحْو: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هُودٍ: 57]، فَلَيْسَ الْإِبْلَاغُ هُوَ الْجَوَابُ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى تَوَلِّيهِمْ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَلَا لَوْمَ عَلَيَّ، أَوْ فَلَا عُذْرَ لَكُمْ؛ لِأَنِّي أَبْلَغْتُكُمْ. {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فَاطِرٍ: 4]؛ أَيْ: فَلَا تَحْزَنْ وَاصْبِرْ. {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الْأَنْفَال: 38]؛ أَيْ: يُصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
|